الإمام المصلح المجدّد عبد الحميد بن باديس



هو الإمام المصلح المجدّد عبد الحميد بن محمّد بن المصطفى بن المكّي بن باديس القسنطيني الجزائري، (4 ديسمبر 1889-16 إبريل 1940)، واحد من أهم رجال الإصلاح في الوطن العربي ورائد النهضة الفكرية والقدوة الروحية لحرب التحرير الجزائرية، ومؤسس ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لقب بألقاب عديدة فهو المصلح الثوري، والشاعر الصحفي، والعالم المفسر، والمعلم المربي، والكاتب السياسي، وقد ارتبط اسمه لدى الجزائريين بالعلم، ولذا يحتفلون في 16 إبريل من كل عام بيوم العلم تخليداً لذكراه.


عبد الحميد هو الابن الأكبر لوالديه وُلد بقسنطينة سنة

عبد الحميد هو الابن الأكبر لوالديه وُلد بقسنطينة سنة: (1308ﻫ ـ 1889م)، وسط أسرة من أكبر الأسر القسنطينية، مشهورة بالعلم والفضل والثراء والجاه، عريقة في التاريخ، يمتدّ نسبها إلى المعزّ بن باديس الصنهاجي وهو من رجالات هذه الأسرة المشهورين في التاريخ (حكم: 406-454هـ/1016-1062م) الذي في عهده ألغى المذهب الشيعي وأعلن مذهب أهل السنة والجماعة مذهبًا للدولة .

فالشيخ في مقابل اعتزازه بالعروبة والإسلام لم يُخْفِ أصله الأمازيغي، بل كان يُبدِيه ويُعْلِنُهُ، ولعلّ من دواعي الافتخار به قيام سلفه بما يحفظ الدينَ ويصون الشريعةَ، فقد كان جدُّه الأوّل يناضل الإسماعيليةَ الباطنيةَ، وبِدَعِ الشيعة في إفريقيةَ، فصار خَلَفًا له في مقاومة التقليد والبدع والحوادث، ومحاربة الضلال والشركيَّات.

نشأته وتعليمه

أتمّ الشيخ حفظ القرآن الكريم في أوّل مراحل تعلّمه بقسنطينة في السنة الثالثة عشر من عمره، على يد الشيخ «محمّد المدّاسي» وقُدم لصلاة التراويح بالناس على صغره، وأخذ مبادئ العربية ومبادئ الإسلام على يد شيخه «حَمدان لُونِيسي»، وقد أثّر فيه القرآن الكريم وهزّ كيانه ليكرّس فيه بعد ذلك ربع قرن من حياته في محاولة إرجاع الأمّة الجزائرية إلى هذا المصدر والنبع الرباني بما يحمله من حقيقة توحيدية وهداية أخلاقية، وهو طريق الإصلاح والنهوض الحضاري.

طلبه للعلم :

وفي سنة (1327ﻫ - 1908م) التحق الشيخ عبد الحميد بمجامع الزيتونة بتونس، فأخذ عن جماعة من كبار علمائها الأجلاّء، وفي طليعتهم زعيم النهضة الفكرية والإصلاحية في الحاضرة التونسية العلاّمة «محمّد النخلي القيرواني» المتوفى سنة: (1342ﻫ - 1923م)، والشيخ محمّد الطاهر بن عاشور المتوفى سنة: (1393ﻫ - 1973م)، فضلاً عن مربين آخرين من المشايخ الذين كان لهم تأثير في نمو استعداده، وتعهّدوه بالتوجيه والتكوين، كالبشير صفر، وسعد العياض السطايفي، ومحمّد بن القاضي وغيرهم، وقد سمحت له هذه الفترة بالاطلاع على العلوم الحديثة وعلى ما يجري في البلدان العربية والإسلامية من إصلاحات دينية وسياسية، في مصر وفي الشام وغيرهم، ممّا كان لهذا المحيط العلمي والبيئة الاجتماعية، والملازمات المستمرّة لرجال العلم والإصلاح الأثر البالغ في تكوين شخصيته ومنهاجه في الحياة.


وبعد تخرّجه وتأهيله بشهادة التطويع (سنة 1330ﻫ-1912م) عاد من تونس متأهّبًا بطموح قويٍّ للتفرّغ للتدريس الممثّل في بدايته بعقد حلقات دراسية بالجامع الكبير، غير أنّ صعوبات واجهته في بداية نشاطه العلمي حالت دون تحقيق طموحه وآماله، وبعد طول تأمّل رأى من المفيد تزامنًا مع موسم الحجّ أن يؤدّي الفريضة مغتنمًا الفرصة في رحلته المشرقية للاتصال بجماعة العلماء والمفكّرين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، الأمر الذي يسمح له بالاحتكاك المباشر وتبادل الرأي معهم، والتعرّف على مواقع الفكر الإصلاحي، فضلاً عن الاطلاع على حقيقة الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية السائدة في المشرق العربي. وفي أثناء تواجده بالحجاز حضر لدروس العلماء من مختلف البلدان الوافدين إلى هذه البقاع المقدّسة كالشيخ «حسين الهندي» الذي نصحه بالعودة إلى بلاده لاحتياجها إلى علمه وفكره قائلا له :إرجع إلى وطنك يا بني فهو بحاجة إليك وإلى أمثالك، فالعلماء هنا كثيرون، يغنون عنك، ولكنهم في وطنك وفي مستوى وطنيتك وعلمك قليلون بسبب الهمجية الفرنسية التي تحارب الدين واللغة وخدمة الإسلام في بلادك أجدر لك وأنفع لها من بقائك هنا.فاقتنع الشاب عبد الحميد بن باديس بوجهة نظر هذا الشيخ، وقبل نصيحته وقرر الرجوع إلى الوطن وقد حظي الشيخ عبد الحميد بإلقاء دروس بالمسجد النبوي ، و تعرّف هناك على كثير من شباب العائلات الجزائرية المهاجرة مثل «محمّد البشير الإبرهيمي» (المتوفى 1382ﻫ ـ 1965م)، فأقام معه مدة تعارفا فيها وتحاورا معا في شأن الخطة الإصلاحية التي يجب أن تضبط لعلاج الأوضاع المتردية في الجزائر، واتفقا على خدمة بلادهما متى عادا إليها.

" وقد ذكر الشيخ الجليل الإمام الكبير محمد البشير الإبراهيمي أنهما لم يفترقا مدة إقامة الإمام عبد الحميد بن باديس بالحجاز، فكانا يقضيان الليل كله يحللان أوضاع الجزائر، ويحددان شروط ووسائل نهضتها ". 

 وقد استفاد الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله تعالى ـ من التيارات الفكرية ومدارس الإصلاح الديني بالمشرق التي ظهرت في العالم الإسلامي على يد الشيخ «محمّد بن عبد الوهاب» (المتوفى سنة 1206ﻫ ـ 1791م)، والإمام «محمّد بن علي الشوكاني» (المتوفى سنة 1250ﻫ ـ 1834م)، و«محمّد رشيد رضا» (المتوفى سنة 1354ﻫ ـ 1935م)، وغيرهم، وليس الفكر الإصلاحي وليد العصر الحديث فحسب، وإنما يضرب بجذوره في أغوار الماضي الإسلامي في عهد «أبي العباس تقي الدين أحمد بن تيمية» (المتوفى سنة 728ﻫ ـ 1327م)، و«ابن قيم الجوزية» (المتوفى سنة 751ﻫ ـ 1350م) رحمهم الله جميعًا.

ولدى عودته للجزائر عرج على مصر وفيها التقى بمفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت المطيعي الذي كتب له بخط يده إجازة في دفتر إجازاته.

العودة إلى الجزائر:

عاد ابن باديس إلى الجزائر عام 1913 م واستقر في مدينة قسنطينة، وشرع في العمل التربوي الذي صمم عليه، فبدأ بدروس للصغار ثم للكبار، واتخذ الإمام عبد الحميد بن باديس الجامع الأخضر بقسنطينة مركزاً لنشاطه التربوي وكان يحضر دروسه أكثر من ثلاثمائة طالب. ويدّرس فيه التفسير والحديث والفقه والعقيدة وعلم التجويد والنحو والصرف والحساب والجغرافيا. وكان يحث طلبته على تعلم اللغة الفرنسية إذ صارت مادة مقررة على التلاميذ في جمعية التربية والتعليم الإسلامية التي يشرف عليها في قسنطينة.

حرص ابن باديس في بداية طريقه على تعليم البنات ودعوة آبائهم لإرسالهن للجمعيات التعليمية وضمان مجانية التعليم لمن لا تستطيع منهن دفع التكاليف.. وفي ذلك يقول: "إذا علَّمتَ ولدًا فقد علّمتَ فردًا، وإذا علَّمتَ بنتًا فقد علّمت أمّة". وفي هذا النهج خصص درسا ً للنساء في الجامع الأخضر بقسنطينة وفي عدد من مساجدها.

راسل ابن باديس علماء الزيتونة والأزهر للحصول على منح دراسية لطلبته، فأوفد بعثات طلابية إلى القاهرة وتونس ودمشق. وكان ابن باديس يضع آمالاً كبيرة فيها وينظم حفلاً كل عام لاستقبال المتخرجين بتفوق وتكريمهم، وكان ينشر أسماءهم في مجلة الشهاب تحت عنوان: «نجوم الجزائر» تشجيعاً لهم وتعريفاً بهم. 

ثم تبلورت لديه فكرة تأسيس جمعية العلماء المسلمين، واهتماماته كثيرة لا يكتفي أو يقتنع بوجهة واحدة، فاتجه إلى الصحافة، وأصدر أول جريد له هي جريدة المنتقد عام 1925 م وكان شعارها "الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء" ثم أوقفت بعد العدد الثامن عشر؛ فأصدر جريدة الشهاب الأسبوعية ، التي بث فيها آراءه في الإصلاح، واستمرت كجريدة حتى عام 1929 م ثم جرائد البصائر والسنة والشريعة والصراط ، وكان شعارها مقولة الإمام مالك إمام دار الهجرة: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".

تأسيس جمعية العلماء المسلمين:

هناك الكثير من المقدمات التي سبقت ظهور جمعية العلماء المسلمين في سنة 1931، فبعد مسيرة ابن باديس الطويلة في الجهاد الفردي بالتعليم والدعوة والإعلام تكوّن في الجزائر تيار من العلماء الإصلاحيين وطلبتهم بقيادة ابن باديس، وكانت لهم لقاءات دورية لتدارس أحوال الجزائر وكيفية النهوض به، للوصول للغاية النهائية وهي الاستقلال عن فرنسا وإعادة الجزائر دولة مسلمة قوية ومتقدمة، ولقد صرح ابن باديس لمن استفسروا منه عن موقفه من المطالبة باستقلال الجزائر قائلاً: "وهل يمكن من شرع في تشييد منزل أن يتركه من دون سقف؟ وما غايتنا من عملنا إلا تحقيق الاستقلال"، وذلك في سنة 1933.

ومن هذه الإرهاصات محاولة ابن باديس التي لم تنجح سنة 1924 لإنشاء جمعية (الإخاء العلمي) يكون مركزها العام بمدينة قسنطينة العاصمة وتجمع شمل العلماء والطلبة وتوحد جهودهم، وتقرب بين آرائهم في التعليم والتفكير، وتوثق الأواصر بينهم.

وقد طلب ابن باديس من الشيخ البشير الإبراهيمي كتابة قانونها الأساسي، لكن لم يكتب لهذه المحاولة النجاح، وكانت الخلاصة التي خرج بها ابن باديس والإبراهيمي أن استعدادنا لمثل هذه الأعمال لم ينضج بعد، ولكن التجربة لم تذهب بلا فائدة.

فعاود ابن باديس التركيز على النشاط في الصحافة والمجلات لتكوين رأي عام وداعم لهذه المحاولات في المرات القادمة، حيث دعا ابن باديس في مقالاته إلى اتحاد العلماء وتجمعهم, والاتفاق على خطة عمل لإصلاح الأوضاع الدينية والتعليمية والاجتماعية والسياسية, في تمهيد لفكرة جمعية العلماء، فكتب في مجلته الشهاب: "أيها السادة العلماء المصلحون المنتشرون بالقطر الجزائري إن التعارف أساس التآلف والاتحاد شرط النجاح فهلموا إلى التعارف والاتحاد بتأسيس حزب ديني محض"، (الشهاب، عدد 3، 26/11/1925).

وقام بعض أصدقاء ابن باديس في العاصمة سنة 1927 بإنشاء «نادي الترقي» بهدف "مساعدة الأعمال التمدينية التي تقوم بها فرنسا وذلك بالسعي في تثقيف مسلمي الجزائر عملياً، واقتصادياً، واجتماعياً"، وقد حاضر ابن باديس في حفل تأسيسه، ومن ثم طلب أعضاء النادي من الشيخ الطيب العقبي رفيق ابن باديس أن يكون محاضراً في النادي لسكنه في العاصمة. وسيكون النادى فيما بعد مقر الاجتماع لتأسيس جمعية العلماء.

وفي خطوة تالية سنة 1927 دعا ابن باديس الطلاب العائدين من جامع الزيتونة والمشرق العربي لندوة في مكتبه يدرسون فيها أوضاع الجزائر، وما يمكن عمله، فلبى الدعوة البشير الإبراهيمي، ومبارك الميلي، والعربي بن بلقاسم التبسي، ومحمد السعيد الواهري، ومحمد خير الدين، وكانت نتيجة هذا الاجتماع الاتفاق على خطة عمل لنشر الدعوة الإصلاحية واستخدام الصحافة والنوادي وإنشاء فرق الكشافة الإسلامية، واتفقوا على تحديد محاور الفكر الإصلاحي الذي يجب أن يكون في الجزائر، وهو مما يعتبر خطوة تمهيدية لجمعية العلماء مستقبلاً، وفعلا كانت تلك هي محاور البرنامج الذي اتبعته الجمعية بعد ميلادها.

شرارة التأسيس:

في سنة 1930 قررت فرنسا إقامة احتفالات ضخمة بمناسبة مرور 100 عام على احتلالها للجزائر، وكان مقررا لها أن تستمر مدة 6 شهور، وانفقوا فيها 130 مليون فرنك فرنسي، وقد وضح أحد قادتهم القصد من هذه الاحتفالات بقوله: "إن احتفالنا اليوم ليس احتفالاً بمرور مائة سنة على احتلالنا الجزائر، ولكنه احتفال بتشييع جنازة الإسلام"!!

لكن ابن باديس ورفاقه تصدوا لهذه الاحتفالات، يقول البشير الإبراهيمي: "استطعنا بدعايتنا السرية، أن نفسد عليها كثيراً من برامجها، فلم تدم هذه الاحتفالات إلا شهرين، واستطعنا بدعايتنا العلنية أن نجمع الشعب الجزائري حولنا، ونلفت أنظاره إلينا".

وكان الرد العملي على هذه الاحتفالات دعوة مجلة الشهاب (عدد 2/1931) لتأسيس جمعية العلماء وُجهت إلى كل عالم من علماء الإسلام في الجزائر، من طرف هيئة مؤسسة مؤلفة من أشخاص حياديين ينتمون إلى نادي الترقي غير معروفين بالتطرف، لا يثير ذكرهم حساسية أو شكوكا لدى الحكومة، ولا عند الطرقيين. أعلنوا: أن الجمعية دينية تهذيبية تسعى لخدمة الدين والمجتمع، لا تتدخل في السياسة ولا تشتغل بها.، وفعلا تم تأسيس جمعية العلماء المسلمين في 5ماي1931 في اجتماع عقد في نادي الترقي بالعاصمة الجزائرية، حضره 70 عالماً من مختلف مناطق الجزائر.

الجمعية وإنشاء المدارس والتعليم:

وعندما استقرت أمور الجمعية وانطلقت في نشاطاتها تكاثرت فروعها حتى بلغت بعد 5 سنوات 33 شعبة وذلك في سنة 1936، وفي سنة 1938 زاد العدد إلى 58 شعبة، فقد أقبل الشعب الجزائري على التعلم وحضور الندوات والمحاضرات في شعب الجمعية وذلك برغم الاضطهادات والعراقيل التي كانت توضع في طريقها.  

وقد عدد البشير الإبراهيمي أهمّ أنشطة الجمعية وأعمالها في ثماني نقاط هي:

1- تنظيم حملة جارفة على البدع والخرافات والضلال في الدين، بواسطة الخطب والمحاضرات، ودروس الوعظ والإرشاد، في المساجد، والأندية، والأماكن العامة والخاصة، حتى في الأسواق، والمقالات في جرائدنا الخاصة التي أنشأناها لخدمة الفكرة الإصلاحية.

2- الشروع العاجل في التعليم العربي للصغار، فيما تصل إليه أيدينا من الأماكن، وفي بيوت الآباء، ربحًا للوقت قبل بناء المدارس.

3- تجنيد المئات من تلامذتنا المتخرجين، ودعوة الشبان المتخرجين من جامع الزيتونة للعمل في تعليم أبناء الشعب.

4- العمل على تعميم التعليم العربي للشبان، على النمط الذي بدأ به ابن باديس.

5- مطالبة الحكومة برفع يدها عن مساجدنا ومعاهدنا التي استولت عليها، لنستخدمها في تعليم الأمة دينها، وتعليم أبنائها لغتهم.

6- مطالبة الحكومة بتسليم أوقاف الإسلام التي احتجزتها ووزعتها، لتصرف في مصارفها التي وُقِفَت عليها. (وكانت من الكثرة بحيث تساوي ميزانية دولة متوسطة).

7- مطالبة الحكومة باستقلال القضاء الإسلامي، في الأحوال الشخصية مبدئيًا.

8- مطالبة الحكومة بعدم تدخلها في تعيين الموظفين الدينيين.

ومن أجل ذلك قامت الجمعية بإنشاء المدارس التابعة لها فبعد ثلاث سنوات، كان يتبع الجمعية 150 مدرسة، يتعلم فيها تقريباً 50 ألف طالب.


العوامل المؤثرة في شخصية ابن باديس :

لا شك أن البيئة الأولى لها أثر كبير في تكوين شخصية الإنسان، وفي بلد كالجزائر عندما يتفتح ذهن المسلم على معاناته من فرنسا، وعن معاناته من الجهل والاستسلام للبدع-فسيكون هذا من أقوى البواعث لأصحاب الهمم وذوي الإحساس المرهف على القلق الذي لا يهدأ حتى يحقق لدينه ولأمته ما يعتبره واجباً عليه، وكان ابن باديس من هذا النوع. وإن بروز شخصية كابن باديس من بيئة ثرية ذات وجاهة لَهو دليل على إحساسه الكبير تجاه الظلم والظالمين، وكان بإمكانه أن يكون موظفاً كبيراً ويعيش هادئاً مرتاح البال ولكنه اختار طريق المصلحين.

تأتي البيئة العلمية التي صقلت شخصيته وهذبت مناحيه والفضل الأكبر يعود إلى الفترة الزيتونية ورحلته الثانية إلى الحجاز والشام حيث تعرف على المفكرين والعلماء الذين تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما دعا إليه من نقاء العقيدة وصفائها. وكان لمجلة المنار التي يصدرها الشيخ رشيد رضا أثر قوي في النظر لمشكلات المسلمين المعاصرة والحلول المطروحة.

مما شجع ابن باديس وأمضى عزيمته وجود هذه العصبة المؤمنة حوله-وقد وصفهم هو بالأسود الكبار-من العلماء والدعاة أمثال الإبراهيمي والتبسي والعقبي والميلي. وقد عملوا معه في انسجام قلّما يوجد مثله في الهيئات الأخرى.

آثاره :

شخصية ابن باديس غنية ثرية ومن الصعوبة في حيز ضيق من الكتابة الإلمام بكل أبعادها وآثارها؛ فهو مجدد ومصلح يدعو إلى نهضة المسلمين ويعلم كيف تكون النهضة.

لم يترك الشيخ عبد الحميد بن باديس في حياته أية مؤلفات منشورة ويقال إنه ألف الرجال ولم يؤلف الكتب. غير أنه ترك آثارا كثيرة جمعها تلامذته في أعمال منشورة أهمها: تفسير ابن باديس طبعه أحمد بوشمال عام 1948، ثم طبعته وزارة الشؤون الدينية بالجزائر تحت عنوان "مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير" عام 1982، وطبعته مرة أخرى وزارة الشؤون الدينية بالجزائر تحت عنوان مجالس التذكير من حديث البشير النذير عام 1983.

كما ترك كتاب العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الذي طبعه تلميذه محمد الصالح رمضان سنة 1963، ثم على يد الشيخ محمد الحسن فضلاء في 1984. كما طبع كل من توفيق شاهين ومحمد الصالح رمضان كتاب رجال السلف ونساؤه عام 1966، ثم كتاب مبادئ الأصول الذي حققه ونشره الدكتور عمار طالبي سنة 1988.

وخلف آثارا عديدة نشرت على شكل مقالات وخطب ومحاضرات وقصائد شعر في صحف بينها المنتقد، والشهاب، والنجاح، والشريعة المطهرة، والسنة المحمدية، والبصائر.

وفاته

توفي عبد الحميد بن باديس مساء الثلاثاء 9 ربيع الأول 1359، الموافق 16 أبريل/نيسان 1940 بمسقط رأسه قسنطينة، وحمل طلبة الجامع الأخضر جثمانه عصر اليوم التالي، وشيعوه في جنازة شارك فيها عشرات الآلاف من الأشخاص الذين توافدوا من كافة مناطق الجزائر.

وقال الشّيخ العربي التبسي في تأبينه "لقد كان الشّيخ عبد الحميد بن باديس في جهاده وأعماله هو الجزائر كلها، فلتجتهد الجزائر بعد وفاته أن تكون هي الشّيخ عبد الحميد بن باديس"

وأرسل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إثر هذا المصاب من منفاه بآفلو إلى الأستاذ أحمد توفيق المدني رسالة جاء فيها:


الأخ الأستاذ أحمد توفيق المدني : أخي: أعتقد أن الراحل أخي العزيز لم يكن لأحد دون أحد، بل كان كالشمس لجميع الناس، وأعتقد أن فقده لا يحزن قريبا دون بعيد، وأن أوفر الناس حظا من الأسى لهذا الخطب هم أعرف الناس بقيمة الفقيد وبقيمة الخسارة بفقده للعلم والإسلام، للجزائر وحدها. فلهذا بعثت أعزيكم على فقد ذلك البحر الذي غاض، بعد أن فاض، ببقاء آثاره في الحياض، وأنهاره في الرياض، كما يعزى على مغيب الشمس بشفقها وعلى ذبول غضارة الشباب ببقاء رونقها، وإن كانت التعازي تعاليل، لا تطفئ الغليل، ولكنها على كل حال تحمل بعض الروح من كيد تتلظى شجنا، إلى كبد تتنزى حزنا. وظني في أخي أنه لو كان يعرف عنواني لكان أول مُعَز لأول معزَّى.


اتخذت الجزائر من ذكرى يوما وطنيا هو "يوم العِلْم" يحتفل به الجزائريون على شرف ابن باديس في 16 أفريل من كل عام .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق