فتح مكة المكرمة

 فتح مكة المكرمة حدث عظيم من الوقائع الفاصلة في تاريخ الإسلام التي أعز الله فيها دينه وأذل أعداءه، فبهذا الفتح خسر الكفر أهم معاقله في بلاد العرب، وبعده دخل الناس في دين الله أفواجا وأصبحت مكة قلعة منيعة لدين التوحيد والهداية.

فتح مكة المكرمة


فتح مكة (يُسمَّى أيضاً الفتح الأعظم) غزوة وقعت في العشرين من رمضان في العام الثامن من الهجرة (الموافق 10 يناير 630م) استطاع المسلمون من خلالها فتحَ مدينة مكة وضمَّها إلى دولتهم الإسلامية. وسببُ الغزوة هو أن قبيلةَ قريشٍ انتهكت الهدنةَ التي كانت بينها وبين المسلمين، بإعانتها لحلفائها من بني الدئل بن بكرٍ بن عبد مناةٍ بن كنانة (تحديداً بطنٌ منهم يُقال لهم "بنو نفاثة") في الإغارة على قبيلة خزاعة، الذين هم حلفاءُ المسلمين، فنقضت بذلك عهدَها مع المسلمين الذي سمّي بصلح الحديبية. وردّاً على ذلك، جَهَّزَ الرسولُ الله عليه وسلم جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل لفتح مكة.

صلح الحديبية :

في شهر ذي القعدة سنة 6هـ الموافق 628م، أمر الرسولُ عليه الصلاة والسلام  أصحابه باتخاذ الاستعدادات لأداء العمرة في مكة، بعد أن رأى في منامه أنه دخل هو وأصحابُه المسجد الحرام وطافوا واعتمروا، فخرج من المدينة المنورة يوم الاثنين غرّة ذي القعدة سنة 6هـ، في 1400 أو 1500 من المسلمين،

ولم يخرج بسلاح إلا سلاح المسافر (السيوف في القرب)، وساق معه الهدي سبعينَ بدنةً. ولمّا علمت قريش بذلك، قررت منعه عن الكعبة، فأرسلوا مئتي فارسٍ بقيادة خالد بن الوليد للطريق الرئيسي إلى مكة، لكنَّ الرسولَ محمدًا اتخذ طريقًا أكثر صعوبة لتفادي مواجهتهم، حتى وصل إلى الحديبية على بعد 14,5 كيلومتراً (تسعة أميال) من مكة، فجاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة فكلموه وسألوه عمَّا جاء به، فقال لهم الرسولُ عليه الصلاة والسلام :

(إنّا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلّوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإن هم أبَوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذنّ الله أمره).

فتح مكة

فرجعوا إلى قريش فقالوا: «يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال، وإنما جاءَ زائراً هذا البيت»، فاتهمتهم قريش وقالت: «وإن كان جاء ولا يريدُ قتالاً، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب».

ثم بعثت قريش مكرز بن حفص بن الأخيف العامري القرشي، فلما رآه الرسول عليه الصلاة والسلام مقبلاً قال: «هذا رجل غادر»، فلما انتهى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وكلمه، قال له الرسول نحواً مما قال لبديل وأصحابه؛ فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام .ثم بعثت قريش الحليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وحلفاء قريش، فلما رآه الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «إن هذا من قومٍ يتألّهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه»، فلما رأى الحليس بن علقمة الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، رجع إلى قريش ولم يصل إلى الرسولِ عليه الصلاة والسلام إعظاماً لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: «اجلس، فإنَّما أنت أعرابيٌّ لا علمَ لك»، فغضب عند ذلك الحليس وقال: «يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيُصَدُّ عن بيت الله من جاء معظِّماً له؟ والذي نفس الحليس بيده، لَتَخلنَّ بين محمد وبين ما جاء له، أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرة رجلٍ واحد»، فقالوا له: «مه، كف عنا يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به».ثم بعثوا عروة بن مسعود الثقفي ليفاوض المسلمين، فأعاد الرسولُ عليه الصلاة والسلام عليه نفس العرض، فعاد لمكة قائلاً: «والله ما رأيتُ ملِكًا يعظّمه أصحابُه ما يعظم أصحابُ محمدٍ محمدًا، والله ما تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها».ثم أرسل الرسولُ عليه الصلاة والسلام عثمان بن عفان إلى قريش ليفاوضهم، فتأخر في مكة حتى سرت إشاعة أنه قد قُتل، فقرر الرسولُ أخذَ البيعة من المسلمين على أن لا يفرّوا، فيما عرف ببيعة الرضوان، فلم يتخلّف عن هذه البيعة أحد إلا جد بن قيس، ونزلت في ذلك آيات من القرآن: ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا). وخلال ذلك وصلت أنباء عن سلامة عثمان، وأرسلت قريشٌ سهيل بن عمرو لتوقيع اتفاق مصالحة عرف بصلح الحديبية، ونصّت بنوده على عدم أداء المسلمين للعمرة ذلك العام على أن يعودوا لأدائها العام التالي، كما نصّت على أن يَرُدَّ المسلمون أي شخص يذهب إليهم من مكة بدون إذن، في حين لا ترد قريش من يذهب إليهم من المدينة. واتفقوا أن تسري هذه المعاهدة لمدة عشر سنوات، وبإمكان أي قبيلة أخرى الدخول في حلف أحد الطرفين لتسري عليهم المعاهدة. فدخلت قبيلة خزاعة في حلف الرسولِ محمدٍ، ودخل بنو الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة في حلف قريش، ولمَّا فرغوا من الكتاب انطلق سهيل وأصحابه عائدين إلى مكة.

سبب الفتح

كان من بنود صلح الحديبية الموقع سنة 6 هجرية بين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقريش أن من أراد الدخول في حلف الرسول وعهده دخل فيه، ومن أراد الدخول في حلف قريش وعهدهم دخل فيه، فدخلت قبيلة "خزاعة" في عهد الرسول الأمين ودخلت "بنو بكر" في عهد قريش.

كانت بين هاتين القبيلتين حروب مستمرة فأراد "بنو بكر" أن ينالوا من "خزاعة" ثأرا قديما لهم فأغاروا عليهم ليلا وقتلوا منهم جماعة، وأعانت قريش في الخفاء "بني بكر" بالسلاح والرجال خارقة بذلك بنود الصلح مع الرسول الأمين، فأرسلت "خزاعة" إليه تخبره بالأمر وأن قريشا غدرت بحلفائه.

ونتيجةً لذلك الغدر والنقض في العهد، خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين من خزاعة حتى قدموا على الرسول محمد في المدينة المنورة، وأخبروه بما كان من بني الدئل بن بكر، وبمن أصيب منهم، وبمناصرة قريش لبني الدئل بن بكر عليهم، ووقف عمرو بن سالم على الرسول وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:

يـا رب إنـي نـاشـدٌ مـحمدًا حلف أبينا وأبيه الأتـلدا

قـد كنتم وُلدًا، وكنا والدًا                   ثُمت أسلـمنـا فلم ننزع يداً

فانصر -هداك الله- نصرًا أعتداً وادع عباد الله يأتوا مـدداً

فـيهـم رسـول الله قـد تـجردا إن سيم خسفاً وجهه تـربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدًا إن قريشًا أخلفوك الموعدا

ونـقضـوا ميـثاقك المـؤكدا وجـعلوا لي في كَدَاءِ رُصَّداً

وزعـمـوا أن لست أدعو أحداً وهـــم أذل وأقـــل عدداً

هم بيـتـونـا بالوتير هجّداً وقـتلـونا ركَّـعـاً وسُـجَّداً


فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : «نُصرت يا عمرو بن سالم»

سفارة أبي سفيان لتجديد الصلح :

أدركت قريش خطورة ما أقدمت عليه وأنها دخلت في ورطة، فعقدت مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها، ليقوم بتجديد الصلح. وقد أخبر الرسولُ محمد أصحابَه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم، قال: «كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة».وخرج أبو سفيان فلقي بديل بن ورقاء بعسفان وهو راجع من المدينة إلى مكة فقال: «من أين أقبلت يا بديل؟»، وظن أنه أتى الرسولَ محمداً، فقال: «سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي»، قال: «أوما جئت محمداً؟»، قال: «لا»، فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: «لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى»، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيها النوى، فقال: «أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً». وعند نزول أبي سفيان في المدينة دخل على ابنته أمِّ حبيبة زوجِ الرسول محمدٍ، وأراد أن يجلس على فراش الرسول فطوته عنه، فقال: «يا بنية، ما أدري، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟»، قالت: «بل هذا فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس»، قال: «والله لقد أصابك بعدي شر».ثم خرج أبو سفيان حتى أتى الرسولَ محمداً فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم الرسولَ، فقال: «ما أن بفاعل»، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: «أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به»، ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب، وعنده فاطمة، والحسن غلام يدب بين يديهما، فقال: «يا علي، إنك أمس القوم بي رحماً، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى محمد»، فقال: «ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه»، فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة، فقال: «هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟»، قالت: «والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فقال لعلي بن أبي طالب: «يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي، فانصحني»، قال: «والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك»، قال: «أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟»، قال: «لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك»، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: «أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس»، ثم ركب بعيره وانطلق.ولما قدم أبو سفيان على قريش قالوا: «ما وراءك؟»، قال: «جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدنى العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار علي بشيء صنعته، فو الله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا؟»، قالوا: «وبم أمرك؟»، قال: «أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت»، قالوا: «فهل أجاز ذلك محمداً؟»، قال: «لا»، قالوا: «ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك»، قال: «لا والله ما وجدت غير ذلك».

سير الأحداث : أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بالاستعداد للخروج إلى مكة نصرة لحلفائهم خزاعة، وأوصى بكتم الأمر عن قريش حتى يباغتها جيش المسلمين.

وفي يوم 10 رمضان سنة 8 هجرية خرج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من المدينة لفتح مكة بجيش قوامه عشرة آلاف جندي من أصحابه، وطلب من القبائل المسلمة حول المدينة (أسلم، ومزينة، وجهينة، وغفار، وسليم) الخروج معه فلحق به منهم ألفا رجل، فصار مجموع جيش المسلمين 12 ألف جندي ، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثومَ بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري الكناني .

سار الرسول -والمسلمون معه صائمون- فلما وصل إلى مكان اسمه "الجحفة" لقيه عمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وكان قد خرج بأهله وعياله مهاجرا إلى المدينة، فاصطحبه في طريقه إلى مكة.

فلما وصلوا وادي "مَرّ الظهران" القريب من مكة، ركب العباس بغلة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- البيضاء وانطلق يبحث عن أحد يخبره بمقدم جيش المسلمين لفتح مكة، ليبلغ قريشا بذلك يحثهم على طلب الأمان من الرسول قبل أن يدخلها عليهم محاربا بقوة السلاح.

في هذه اللحظات كان أبو سفيان خارج مكة يتجسس الأخبار فلقيه العباس ونصحه بأن يأتي معه ليطلب له الأمان من الرسول فجاء معه، ولما دخلا عليه قال الرسول الأمين مخاطبا أبا سفيان: "ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟… ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟".

أعلن أبو سفيان إسلامه، فقال العباس:‏ "يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا"، فقال الرسول‏:‏ "‏نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن".

غادر جيش المسلمين "مرّ الظهران" متوجها إلى مكة، فمرت على أبي سفيان كتائب جيشهم الواحدة تلو الأخرى مما أثار الرعب في نفسه، فاقتنع بأن خسارة قريش ستكون محققة إن هي حاولت منع المسلمين من دخول مكة.

أسرع أبو سفيان إلى قومه صارخا بأعلى صوته: "يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن"، فتفرق الناس واحتموا بدورهم وبالمسجد الحرام.

ولما وصل الرسول الكريم إلى ذي طوى وزع جيشه إلى ثلاثة أقسام: قسم أمّر عليه خالد بن الوليد وأمره أن يدخل مكة من أسفلها، وقسم أمّر عليه الزبير بن العوام -ومعه راية النبي محمد- وأمره أن يدخل مكة من أعلاها، وقسم أمّر عليه أبا عبيدة بن الجراح وأمره أن يسلك بطن الوادي. ووجّه الرسول أمراءَ الجيش الثلاثة بأن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم.

دخل الجيش الإسلامي مكة ولم يواجه جيشا محاربا من أهلها باستثناء اشتباك محدود وقع بين جيش خالد بن الوليد ومجموعة قليلة من قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل رفضت الأمان وأرادت التصدي للمسلمين بالقوة، وقتل في هذا الاشتباك  أفراد قلائل من الجانبين، ثم انتهى بفرار فلول مجموعة قريش إلى بيوتهم ليأمنوا من القتل.

دخل الرسول مكة من أعلاها وسار -والمسلمون بين يديه ومن خلفه وحوله- حتى دخل المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم طاف بالبيت، وكانت في يده قوس يطعن بها الأصنام المنصوبة حول الكعبة (360 صنما) وهو يردد قوله تعالى: "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" (الإسراء، الآية: 81)، "قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد" (سـبأ، الآية: 49)، فتخر الأصنام ساقطة على وجوهها.

فلما أكمل طوافه دعا سادن الكعبة عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاحها وأمر بها ففتحت، فدخلها وأمر بالصور التي كانت فيها فمحيت، ثم دار في نواحيها وصلى داخلها، ثم خرج منها وأعاد مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة وأمر أن يبقى في عائلته أبد الدهر.

إعلان العفو العام

تجمعت رجالات قريش منتظرين ما سيفعله بهم الرسول الأمين، فتوجه إليهم وقال: "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟"، فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوانه: "لا تثريب عليكم اليوم" (يوسف، الآية: 92)، اذهبوا فأنتم الطلقاء"، وأمر بلالا أن يصعد فيؤذن للصلاة على ظهر الكعبة وقريش تسمع.

نال أهلُ مكة عفوًا عامًّا رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول محمدٍ ودعوته، ومع قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي، وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها، فلم تُعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى المفتوحة عنوة؛ لقدسيتها وحرمتها .

وفي اليوم التالي لفتحه مكة ألقى النبي محمد صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة بين فيها بعض معالم الدين وحرمة بلده الأمين مكة، ثم بايع الرجال والنساء من أهل مكة على السمع والطاعة، وأقام بها بعد ذلك 19 يوما وضح لهم فيها معالم الإسلام وتعاليمه .

وقد كان من أثر عفو الرسولِ عليه الصلاة والسلام  عن أهل مكة، والعفو عن بعض من أَهدر دماءَهم، أن دخل أهلُ مكة رجالاً ونساءً وأحرارًا وموالي في الإسلام طواعيةً واختيارًا، وبدخول مكة تحت راية الإسلام دخل الناس في الإسلام أفواجاً، وبايعه الناس جميعاً رجالا ونساء، وكبارا وصغارا، وبدأ بمبايعة الرجال، فقد جلس لهم على الصفا، فأخذ عليهم البيعة على "الإسلام والسمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا".وجاء مجاشع بن مسعود بأخيه مجالد بعد يوم الفتح فقال لرسول الله: «جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة»، فقال الرسول: «ذهب أهل الهجرة بما فيها»، فقال: «على أي شيء تبايعه؟»، قال: «أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد».ولما فرغ رسولُ الله  من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر قاعد أسفل منه، يبايعهن بأمره، ويبلغهن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة خوفاً من الرسولِ أن يعرفها، لِما صنعت بعمه حمزة، فقال الرسولُ عليه الصلاة والسلام: «أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئاً»، فبايع عمر النساء على ألا يشركن بالله شيئاً، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «ولا تسرقن»، فقالت هند: «إن أبا سفيان رجل شحيح، فإن أنا أصبت من ماله هنات؟»، فقال أبو سفيان: «وما أصبت فهو لك حلال»، فضحك الرسولُ عليه الصلاة والسلام وعرفها، فقال: «وإنك لهند؟»، قالت: «نعم، فاعف عما سلف يا نبيّ الله، عفا الله عنك»، فقال: «ولا يزنين»، فقالت: «أوتزني الحرة؟»، فقال: «ولا يقتلن أولادهن»، فقالت: «ربيناهم صغاراً، وقتلتموهم كباراً، فأنتم وهم أعلم» -وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر- فضحك عمر حتى استلقى، فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: «ولا يأتين ببهتان»، فقالت: «والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق»، فقال: «ولا يعصينك في معروف»، فقالت: «والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك»، ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: «كنا منك في غرور».

خاتمة :

فتح مكة هو الهدف العام الذي تشترك فيه جميع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه ، وهو دعوة الناس إلى الإسلام ، ومنع الفتنة ، وإزالة الحواجز التي تصدهم عن دين رب العالمين . وقد كان لفتحها نتائج كثيرة منها: أن دخلت مكةُ تحت نفوذ المسلمين، وزالت دولة قريش منها، وأصبح المسلمون قوة عظمى في جزيرة العرب. وتحققت أمنية الرسولِ عليه الصلاة والسلام بدخول قريش في الإسلام، وبرزت الدولة الإسلامية قوةً كبرى في الجزيرة العربية لا يستطيع أي تجمع قبلي الوقوف في وجهها.

وهناك قيمة كبرى عبر عنها هذا الفتح الأكبر وهي أن الاسلام دين «التسامح والرحمة» فنجد أن «فتح مكة» لم يكن حربا بل سلما، ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة فاتحا ومنتصرا، وإذا كان قد قتل من عذبوه وآذوه لكان ذلك عدلا، إلا أنه يعلمنا جميعا أن التسامح سمة ومبدأ أساسيا في الإسلام.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق