مقدمة
غزوة بدر (وتُسمى أيضاً بـ غزوة بدر الكبرى وبدر القتال ويوم الفرقان) هي غزوة وقعت في السابع عشر من رمضان في العام الثاني من الهجرة (الموافق 13 مارس 624م) بين المسلمين بقيادة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام من جهة، وقريش وأحلافها من العرب بقيادة عمرو بن هشام المخزومي القرشي. وتُعد غزوةُ بدر أولَ معركةٍ من معارك الإسلام الفاصلة، وقد سُميت بهذا الاسم نسبةً إلى منطقة بدر التي وقعت المعركة فيها، وبدر بئرٌ مشهورةٌ تقع بين مكة والمدينة المنورة.
سبب المعركة:
بعد الإذن بالجهاد في العهد المدني، بلغ المسلمون تحرك قافلة كبيرة تحمل أموالاً عظيمة لقريش عائدة من الشام بقيادة أبي سفيان، صخر بن حرب، فانتدب النبي، صلى الله عليه وسلم، أصحابه للخروج، وتعجل بمن كان مستعدًا للخروج دون انتظار سكان العوالي لئلا تفوتهم القافلة، ولذلك لم يكن خروج المسلمين بكامل طاقتهم العسكرية في معركة بدر، فهم خرجوا لأخذ القافلة، ولم يكن في حسبانهم مواجهة جيش قريش.
وقد خرج من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، منهم من الأنصار بضع وأربعين ومائتين، ولم يكن معهم إلا فرسان، وسبعون بعيًرا يتعاقبون على ركوبها.
بلغ أبا سفيانَ خبرُ مسير الرسول محمدٍ صلى الله عليه وسلم بأصحابه من المدينة المنورة بقصد اعتراض قافلته واحتوائها، فبادر إلى تحويل مسارها إلى طريق الساحل، كما أرسل ضمضم بن عمرو الغفاري الكناني إلى قريش ليستنفرهم لإنقاذ أموالهم وليخبرهم أن النبي محمداً عرض لها في أصحابه، فقد كان أبو سفيان يتلقط أخبار المسلمين ويسأل عن تحركاتهم، بل يتحسس أخبارهم بنفسه، فقد تقدم إلى بدر بنفسه، وسأل من كان هناك: «هل رأيتم من أحد؟»، قالوا: «لا، إلا رجلين»، قال: «أروني مناخ ركابهما»، فأروه، فأخذ البعر ففته فإذا هو فيه النوى، فقال: «هذا والله علائف يثرب»، فقد استطاع أن يعرف تحركات عدوه، حتى خبر السرية الاستطلاعية عن طريق غذاء دوابها، بفحصه البعر الذي خلفته الإبل، إذ عرف أن الرجلين من المدينة أي من المسلمين، وبالتالي فقافلته في خطر، فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري الكناني إلى قريش وغيَّر طريق القافلة، واتجه نحو ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر حالياً).
وصل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة فدخل إليها وهو ينادي بأعلى صوته: «يا معشر قريش، اللطيمةَ، اللطيمةَ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوثَ، الغوثَ». فتحفز الناس سراعاً، وقالوا: «أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي؟ كلا، والله ليعلمن غير ذلك»، فكانوا بين رجلين: إما خارج، وإما باعث مكانه رجلاً، وأوعبوا في الخروج، فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، فإنه عوض عنه رجلاً كان له عليه دَين، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي، فلم يخرج منهم أحد.ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا على المسير تذكرت قريش ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب، وكاد ذلك أن يثنيهم عن الخروج وقالوا: «إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا»، وكانت الحرب بين قريش وبني بكر بن عبد مناة لدماء بينهم، وقد تمثل لهم إبليس على صورة سراقة بن مالك المدلجي الكناني، وكان سراقة أحد أشراف كنانة، وقال لهم: «لا غالب لكم اليوم من الناس وأنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه»، فخرجوا سراعاً. وقد نزل قول الله تعالى في القرآن يصف هذه الحادثة : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ.)
وكان قوام جيش قريش نحو ألف وثلاثمئة مقاتل في بداية سيره، وكان معه مئة فرس وستمئة درع، وجِمال كثيرة لا يُعرف عددُها بالضبط، وكان قائده العام أبا جهل وهو عمرو بن هشام المخزومي القرشي، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا ينحرون يوماً تسعاً ويوماً عشراً من الإبل. وقيل أن عدد جيش قريش كان ألفاً، وكان معهم مئتا فرس يقودونها إلى جانب جمالهم، ومعهم القيان يضربون بالدفوف، ويغنين بهجاء المسلمين.وعندما تأكد أبو سفيان من سلامة القافلة أرسل إلى زعماء قريش وهو بالجحفة برسالة أخبرهم فيها بنجاته والقافلة، وطلب منهم العودة إلى مكة.
ما قبل المعركة:
ظهرت الخلافات في جيش المشركين بعد نجاة القافلة بين مريد للعودة دون قتال المسلمين حتى لا تكثر الثارات بين الطرفين، وبين مصر على القتال كأبي جهل، وقد غلب رأيه حيث قام فقال: «والله لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً»، ولكنَّ بني زهرة عصوه وانشقوا عن الجيش وعادوا إلى مكة، وكانت بنو عدي قبلهم قد تخلفت عن الخروج، أما غالبية قوات قريش وأحلافهم فقد تقدمت حتى وصلت بدرًا.
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نجاة القافلة، وإصرار قريش على قتاله صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه عامة، وقصد الأنصار خاصة فتكلم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، والمقداد بن عمرو من المهاجرين، فقالوا وأحسنوا، لكن نبي الإسلام كان يريد أن يتقرر موقف الأنصار ويثبت رأيهم قبيل المعركة، ليس لأنهم كانوا محتضنين للدين الجديد فقط، بل لأن البيعة التي كان الأنصار عقدوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن تتضمن القتال، بل كانت تشتمل على حمايته ومنعه، لذلك لم يكونوا ملزمين بشيء خارج المدينة المنورة، لذا حرص عليه السلام على التحقق من موافقتهم، فقال مرة ثانية "أشيروا عليّ أيها الناس"..
فما كان من الصحابي الجليل سعد بن معاذ، وهو القيادي البارز ضمن صفوف الأنصار، إلا أن قام قائلا "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال: "أجل"، قال: "فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوًا غدًا، وإنا لصبُر في الحرب صدُق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله". فسُرّ الرسول صلى الله عليه وسلم بما قاله المهاجرين والأنصار، وقال "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين"..
وصول المسلمين إلى بدر و الإستعداد للمعركة :
وبعد نزول الرسول صلى الله عليه و سلم والمسلمين على أدنى ماء بدر من قريش، اقترح سعد بن معاذ على رسول الله بناء عريش له يكون مقرّاً لقيادته ويأمن فيه من العدو، وكان مما قاله سعد في اقتراحه: «يا نبي الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك»، فأثنى عليه الرسول صلى الله عليه و سلم خيرًا ودعا له بخير، ثم بنى المسلمون العريش لرسول الله على تل مشرف على ساحة القتال، وكان معه فيه أبو بكر الصديق، وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله. ثم بات المسلمون تلك الليلة، التي هي ليلة المعركة، قد أنزل الله تعالى على المسلمين في تلك الليلةِ النعاسَ والطمأنينة و الغيث ، فقد جاء في سورة الأنفال قول الله تعالى : ( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ). قال القرطبي: «وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها، فكان النوم عجيبًا مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، وكأن الله ربط جأشهم». أما الرسول عليه الصلاة والسلام فقد ظل يصلي ويبكي حتى أصبح، قال علي بن أبي طالب: «ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح».وبدأ الرسول بالتخطيط للمعركة، فصفَّ المسلمين فاستقبل المغرب وجعل الشمس خلفه فاستقبل أعداؤه الشمس، أي جعل الشمس في ظهر جيشه وفي وجه أعدائه حتى تؤذي أشعتها أبصارهم. كما أخذ يعدل الصفوف ويقوم بتسويتها لكي تكون مستقيمة متراصة، وبيده سهم لا ريش له يعدل به الصف، فرأى رجلاً اسمه سواد بن غزية، وقد خرج من الصف فضربه في بطنه، وقال له: «استوِ يا سواد»، فقال: «يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني»، فكشف الرسول صلى الله عليه و سلم عن بطنه وقال: «استقد»، فاعتنقه سواد فقبّل بطنه، فقال: «ما حملك على هذا يا سواد؟»، قال: «يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك»، فدعا له الرسول بخير.ثم بدأ بإصدار الأوامر والتوجيهات لجند الله، ومنها أنه أمرهم برمي الأعداء إذا اقتربوا منهم، وليس وهم على بعد كبير، فقد قال: «إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل»، كما نهى عن سل السيوف إلى أن تتداخل الصفوف، قال: «ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم»، كما أمر الصحابةَ بالاقتصاد في الرمي، قال: «واسْتَبْقُوا نَبْلَكم».وقد كان لتشجيع الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه أثرٌ كبيرٌ في نفوسهم ، فقد كان يحثهم على القتال ويحرضهم عليه، ومن ذلك قوله لأصحابه: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض»، فقال عمير بن الحمام الأنصاري: «يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض؟»، قال: «نعم»، قال: «بخٍ بخٍ»، فقال الرسول صلى الله عليه و سلم : «ما يحملك على قول: بخٍ بخٍ؟»، قال: «لا والله يا رسول الله، إلا رجاء أن أكون من أهلها»، قال: «فإنك من أهلها»، فأخرج تمرات من قرنه (جعبة النشاب) فجعل يأكل منه، ثم قال: «لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة»، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتل. ومن تشجيعه أيضاً أنه كان يبشر أصحابه بقتل صناديد قريش، ويحدد مكان قتلى كل واحد منهم، كما كان يبشر المسلمين بالنصر قبل بدء القتال فيقول: «أبشر أبا بكر»، ووقف يقول للصحابة: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة». وقد دعا الرسول للمسلمين بالنصر فقال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني».
وصول قريش إلى بدر:
قبل وصول قريش إلى بدر بعثت عمير بن وهب الجمحي، للتعرف على مدى قوة جيش المدينة، فدار عمير بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال: «ثلاثمئة رجل، يزيدون قليلاً أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد»، فضرب في الوادي حتى أبعد، فلم ير شيئاً، فرجع إليهم فقال: «ما وجدت شيئاً، ولكني قد رأيت يا معشر قريشٍ البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يُقتل رجلٌ منهم حتى يَقتلَ رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادكم، فما خير العيش بعد ذلك، فانظروا رأيكم»، ولكن أبا جهلٍ رفَضَ العودة إلى مكة بدون قتال وأصر على المضي لقتال المسلمين.ولما وصل جيش مكة إلى بدر دب فيهم الخلاف وتزعزعت صفوفهم الداخلية، فعن ابن عباس أنه قال: لما نزل المسلمون وأقبل المشركون، نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتبة بن ربيعة وهو على جمل أحمر، فقال: «إن يكن عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا»، وكان عتبة يقول: «يا قوم أطيعوني في هؤلاء القوم فإنكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم، ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه، فاجعلوا حقها برأسي وارجعوا»، فقال أبو جهل: «انتفخ والله سحره (أي جَبُنَ) حين رأى محمدًا وأصحابه، إنما محمد وأصحابه أكلة جزور لو قد التقينا»، فقال عتبة: "ستعلم من الجبان المفسد لقومه، أما والله إني لأرى قومًا يضربونكم ضربًا، أما ترون كأن رؤوسهم الأفاعي وكأن وجههم السيوف". واستفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال: «اللهم أقطعُنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم»، فنزلت في ذلك الآية: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ )
بداية المعركة:
في صبيحة يوم المعركة أعد الرسول عليه الصلاة والسلام صفوف المسلمين بطريقة جديدة لا بطريقة الفر والكر المعهودة عند العرب ،و جعل يكثر من دعاء ربه، حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر، وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُر} [القمر: 45] ،ورمى صلى الله عليه وسلم المشركين في وجوههم بالحصى، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ} [الأنفال: 17]
وبدأت المعركة بتقدم عتبة بن ربيعة، وتبعه ابنه الوليد، وأخوه شيبة طالبين المبارزة، فخرج لهم شباب من الأنصار، فرفضوا مبارزتهم طالبين مبارزة بني عمومتهم، فأمر صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنه، فقتل حمزة عتبة، وقتل علي شيبة، وأثخن عبيدة والوليد كل واحد منهما صاحبه، ثم مال علي وحمزة على الوليد فقتلاه، واحتملا عبيدة، وتأثرت قريش بنتيجة المبارزة، وبدأت بالهجوم على المسلمين هجومًا عامًا، فصمد وثبت له المسلمون، وهم واقفون موقف الدفاع، ويرمونهم بالنبل كما أمرهم رسول الله، وكان شعارُ المسلمين: «أَحَد أَحَد»، ثم أمرهم الرسول بالهجوم قائلاً: «شدوا»، وواعدًا من يُقتل صابرًا محتسبًا بأن له الجنة، ومما زاد في نشاط المسلمين واندفاعهم في القتال سماعهم قول رسول الله: ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) سورة القمر
بدأت أمارات الفشل والاضطراب تظهر في صفوف قريش، واقتربت المعركة من نهايتها، وبدأت جموع قريش تفِرُّ وتنسحب، وانطلق المسلمون يأسرون ويقتلون حتى تمت على قريش الهزيمة.
وقُتل أبو جهل، فقد قتله غلامان من الأنصار هما معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ويروي الصحابي عبد الرحمن بن عوف قصة مقتله فيقول:
بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: «يا عم هل تعرف أبا جهل؟»، قلت: «نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟»، قال: «أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا»، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: «ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه»، قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: «أيكما قتله؟»، فقال كل واحد منهما: «أنا قتلته»، فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟»، قالا: «لا»، فنظر في السيفين فقال: «كلاكما قتله»، وقضى بسَلَبِه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، وكانا معاذاً بن عفراء ومعاذاً بن عمرو بن الجموح.
انتهت المعركة، وضرب المسلمون فيها أروع الأمثلة في الجهاد في سبيل الله والدفاع عن دينهم ورسولهم، فكان لهم النصر المؤزر، فأسروا 70 من المشركين، وقتلوا 70 من صناديد الكفر، ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم على قتلى قريش، ثم أخذ يكلمهم: "بئس العشيرة كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس"، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قلب بدر.
جاءت البشرى لأهل المدينة بنصر المسلمين، فعمتها البهجة والسرور، واهتزت أرجاؤها تهليلاً وتكبيرًا، وكان فتحًا مبينًا ويومًا فرق الله به بين الحق والباطل.
ونزل خبر هزيمة المشركين كالصاعقة على أهل مكة، فمنعوا النياحة على القتلى؛ لئلا يشمت بهم المسلمون.
نتائج المعركة :
انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين على قريش، وكان قتلى قريش سبعين رجلاً، وأُسر منهم سبعون آخرون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم، وقُتل من المسلمين أربعة عشر رجلاً.
منهم ستة من المهاجرين هم:
عبيدة بن الحارث المطلبي القرشي.
عمير بن أبي وقاص الزهري القرشي.
صفوان بن وهب الفهري القرشي.
عاقل بن البكير الليثي الكناني.
ذو الشمالين بن عبد عمرو الخزاعي.
مهجع بن صالح العكي.
وثمانية من الأنصار هم:
سعد بن خيثمة الأوسي.
مبشر بن عبد المنذر العمري الأوسي.
يزيد بن الحارث الخزرجي.
عمير بن الحمام السَلَمي الخزرجي.
رافع بن المعلى الزرقي الخزرجي.
حارث بن سراقة النجاري الخزرجي.
معوذ بن الحارث النجاري الخزرجي.
عوف بن الحارث النجاري الخزرجي.
ولما تم النصر وانهزم جيش قريش أرسل رسول الله عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بانتصار المسلمين وهزيمة قريش.
ومكث في بدرٍ ثلاثة أيام بعد المعركة، فقد روي عن أنس أنه قال: "إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ظهر على قومٍ أقام بالعرصة ثلاث ليال". ودُفن من قُتل من المسلمين في أرض المعركة، ولم يرد ما يشير إلى الصلاة عليهم، ولم يُدفن أحد منهم خارج بدر، ووقف رسول الله على القتلى من قريش فقال: «بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس»، ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر فطُرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: «يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا»، فقال عمر بن الخطاب: «يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟»، فقال: «والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»
كما أنه تحقق من نتائج هذه الغزوة سيطرة المسلمين على دائرة جغرافية اتسعت لتشمل شمال مكة ومنطقة الساحل والمدينة، مما قطع لقريش أي أمل في استمرار تجارتها مع الشام، فبدأت تفكر وتعد لجولة جديدة.
أسرى بدر :
استشار صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، في الأسرى، فرأى أبو بكر، رضي الله عنه – مراعيًا القربى التي بينهم- أن يأخذ منهم الفدية حتى تكون لهم قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام، ورأى عمر، رضي الله عنه، أن يضرب أعناقهم؛ لأنهم أئمة الكفر وصناديدها، فأخذ صلى الله عليه وسلم بمشورة أبي بكر، رضي الله عنه، فنزل القرآن مؤيدًا رأي عمر، رضي الله عنه؛ فعاتبهم الله عز وجل لتفضيل الفداء على معاقبة أئمة الكفر، وأحل لهم ما أخذوا من فداء.
وقد تباين فداء الأسرى، فجعل صلى الله عليه وسلم فداء من كان ذا مال أربعة آلاف درهم، وفداء من لم يكن له مال تعليم أبناء الأنصار الكتابة، ولم يكن هدفه صلى الله عليه وسلم في فداء الأسرى جمع المال، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لو كان مُطْعِمُ بن عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَ كَلَمَنِي في هَؤُلاءِ النتْنَى، لأَطْلَقْتُهُمْ له»، ولم يحاب صلى الله عليه وسلم في فداء الأسرى، فقد استأذن رجال من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ترك فداء العباس، فأبى على الرغم من أنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان مسلما.
وأمر صلى الله عليه وسلم بقتل عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة(40)، فقد كانا من أئمة الكفر، ممن يؤذون المسلمين في مكة. واستوصى صلى الله عليه وسلم ببقية الأسرى خيرًا.
خاتمة :
لهذه الغزوة أهمية بالغة مع الانتصارات الكبيرة التي تحققت للمسلمين، بالإضافة للتأثيرات الإيجابية التي خلّفتها في نفوسهم، حيث رفعت من معنوياتهم وزادت في إيمانهم وقوت من شوكتهم وذاع صيتهم، وهزَّت كيان أعدائهم، وأصبحوا ينظرون إلى المسلمين على أنهم قوة لا يستهان بها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق