فتح القدس

 مقدمة

في سنة 15 هجرية - أي بعد وفاة الرسول (عليه الصلاة والسلام) بخمسة أعوام - تمكن المسلمون من فتح كثير من بلاد الشام على إثر معركة اليرموك ، ودانت لهم حمص  وقنسرين وقيسارية وغز ة واللاذقية وحلب ، وحيفا ويافا وغيرها .     وقد اتجه لفتح بلاد فلسطين قائدان مسلمان هما: عمرو بن العاص ، وأبو عبيدة بن الجراح الذي إليه يُعْزَى فضل إدخال بيت المقدس في الإسلام ، وكانت تسمى بإيليا .

كانت القدس مدينة مهمة من المقاطعة البيزنطية في السنوات السابقة للفتح الإسلامي. وفي 614 م، غزا الساسانيون تحت قيادة شهرباز المدينة أثناء الحروب الساسانية البيزنطية، وقام الفرس بنهب المدينة. ويقال أنهم ذبحوا 90000 ممن يتبعون المسيحية. وكان يعتقد أن اليهود، الذين تعرضوا للاضطهاد في الحكم الروماني الذي يسيطر عليهم، قاموا بمساعدة الفُرس. وكان الصليب الحقيقي أسر واقتيد إلى المدائن وتم استرجاعه فيما بعد من قبل الإمبراطور هرقل بعد أن انتصر على الفُرس.توفي الرسول صلى الله عليه وسلم عام 632 م وخلفه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي أرجع السيادة على الجزيرة العربية بعد سلسلة من الحملات المعروفة باسم حروب الردة. وبدأ الفتح الاٍسلامي في الشرق من خلال غزو العراق، وكانت مقاطعة من الإمبراطورية الفارسية الساسانية. وعلى الجبهة الغربية، غزت جيوشه الإمبراطورية البيزنطية.في 634 م، توفي أبو بكر الصديق فخلفه الفاروق عمر بن الخطاب. وفي أيار / مايو 636 م، أطلق الإمبراطور هرقل حملة كبيرة لاستعادة الأراضي المفقودة، لكن جيشه هُزم بشكل حاسم في معركة اليرموك في 13 هـ آب / أغسطس 636 م.



 عُزل خالد بن الوليد عن رئاسة الجيش بأمر من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعين مكانه أبو عبيدةبن الجراح رضي الله عنه، فأرسل أبو عبيدة إلى قادة الجيوش يستشيرهم إلى أين يتوجه فأشاروا أن يستشير عمر -رضي الله عنه -، فأشار عليهم بالقدس، فكانت فرحة المسلمين بذلك فرحة عظيمة، فقد كانوا ينتظرون بفارغ الصبر الصلاة في المسجد الأقصى، تحركت حينها الجيوش نحو القدس، وكان فيها خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنه وغيرهم من كبار الصحابة، وبدأ الحصار على أسوار القدس، وعندما وصل أبا عبيدة وجيشه إلى القدس رآه المسلمون فكبروا تكبيراً عظيماً، فانتشر الرعب في قلوب الروم وظنوا أن أمير المؤمنين وصل بنفسه، ولما عرفوا أنه لم يأتي إلى القدس استمروا في القتال.

حصار القدس :

تم تحصين القدس جيدا بعدما استعادها هرقل من الفُرس. وبعد هزيمة البيزنطيين في اليرموك، أصلح بطريرك القدس صفرونيوس دفاعاتها. وكان المسلمون حتى الآن لم يحاصروا المدينة. ومع ذلك، منذ 13 هـ كانت هناك قوات عربية يمكن أن تهدد كل الطرق المؤدية إلى المدينة المقدسة. على الرغم من أنها لم تكن محاصرة، بعد معركة اليرموك كانت في حالة حصار من المسلمين الذين استولوا على الحصون المجاورة بيلا وبصرى. وقد قطعت المدينة عن بقية سورية، وكانت مسألة أن يجري إعدادها للحصار على ما يبدو لا مفر منه. عندما وصل جيش المسلمين أريحا، جمع صفرونيوس الآثار المقدسة بما في ذلك الصليب الحقيقي، وأرسلها سرا إلى الساحل لأخذها للقسطنطينية. بدأت قوات المسلمين الحصار في شوال 15 هـ فقد تقدم المسلمون بفتح القدس (إيلياء) في فصل الشتاء ، وأقاموا على ذلك أربعة أشهر في قتال وصبر شديدين. وبدلا من الاعتداءات المتواصلة على المدينة قرروا المضي قدما في الحصار لاٍنهاك البيزنطيين بنقص الإمدادات حتى يمكن التفاوض على الاستسلام غير الدموي.وعلى الرغم من عدم تسجيل تفاصيل الحصار، يبدو أنه لم يكن دمويا والحامية البيزنطية لم تتوقع أي مساعدة من نظام هرقل المتواضع. بعد حصار دام أربعة أشهر، عرض صفرونيوس استسلام المدينة ودفع الجزية، بشرط أن يحضر الخليفة إلى القدس للتوقيع على اتفاق وقبول الاستسلام. يقال أنه عندما علم المسلمون بشروط صفرونيوس اقترح شرحبيل، أحد قادة المسلمين، إرسال خالد بن الوليد على أنه الخليفة، بما أنه كان مماثلا جدا في المظهر لعمر بدلا من انتظار قدوم الخليفة من المدينة المنورة. لكن هذا لم ينجح ربما لأن خالد كان مشهورا جدا في الشام، أو قد يكون هناك بعض المسيحيين العرب في المدينة الذين زاروا المدينة المنورة وشاهدوا كل من عمر وخالد. وبالتالي رفض بطريرك القدس التفاوض، فكتب أبو عبيدة إلى الخليفة عمر عن الوضع، ودعاه للقدوم إلى القدس لقبول استسلام المدينة.

الإستسلام :

لما رأى أهل إيلياء أنهم لاطاقة لهم على هذا الحصار ، كما رأوا كذلك صبر المسلمين وجلدهم أشاروا على (البطريرك) أن يتفاهم معهم ، فأجابهم إلى ذلك ، فعرض عليهم أبو عبيدة بن الجراح إحدى ثلاث: الإسلام أو الجزية أو القتال ، فرضوا بالجزية ، والخضوع للمسلمين ، مشترطين أن يكون الذي يتسلم المدينة المقدسة هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نفسه رضى الله عنه.فأرسل أبو عبيدة بن الجراح إلى أمير المؤمنين عمر بما اتفق عليه الطرفان ، فرحب عمر بحقن الدماء ، وسافر إلى بيت المقدس مع غلام له على بعير واحد، وكانوا يتناوبون على ركوبه، وكان بإمكانه –رضي الله عنه- أن يخرج وخلفه جيوش مجيشه وفي موكب مهيب من الفرسان، لكنه أراد أن يترك رسالة إلى ملوك الأرض عن التواضع والعزة بالله وحده لا بغيره.

وصل عمر إلى فلسطين وذهب أولا إلى الجابية وهي قرية من قرى الجولان شمال حوران ، حيث استقبله أبو عبيدة وخالد بن الوليد الذي كان قد سافر مع مرافقه. واستقبله المسلمون أيضا، ثم توجَّه إلى بيت المقدس ، فدخلها سنة 15هـ- - 636م، ولما وصلها –رضي الله عنه- كان في استقباله "بطريرك المدينة صفرونيوس" وكبار الأساقفة  وحينها كان دور الغلام ليركب البعير، فأراد الغلام أن يقدم أمير المؤمنين عليه لكنه أبى ودخل القدس ماشياً يجر البعير، فلما رآه أبو عبيدة لم يحتمل ذلك، فاستعجل إلى أمير المؤمنين وقال: يا أمير المؤمنين قد صنعت اليوم صنعاً عظيما عند أهل الأرض، فهل لك أن … فضربه عمر في صدره مؤنباً وقال قولته التي تحمل كل معاني العزة فقال: “أما لو قالها غيرك يا أبا عبيدة، لقد كنا قوماً أذلاء فأعزنا الله بالإسلام، وكنا ضعافاً فقوانا الله”.

هال الروم ذاك المنظر من هيئته – رضي الله عنه- كما هال البطريرك أيضاً، وعظم شأن الغلام في نظره، وقال لقومه: إن أحداً في الدنيا لا يستطيع الوقوف في وجه هؤلاء القوم، فسلموا لهم تنجوا، وبعد أن تحدث أمير المؤمنين عمر و أساقفة الروم في شروط التسليم انتهوا إلى إقرار تلك الوثيقة التي اعتبرت من الآثار الخالدة الدالّة على عظمة تسامح المسلمين في التاريخ ، والتي عرفت باسم العهدة العمرية و كان نصها كما يلي :

"بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانـًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها ؛ أنه لاتسكن كنائسهم و لا تهدم ولاينتقص منها ولا من خيرها ، و لا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ، ولا يضام أحد منهم ، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود ، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن ، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص ، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم (ويخلى بيعهم وصلبهم) ، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم ، حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لايؤخذ منهم شىء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية .  

  شهد على ذلك: خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان .وكتب وحضر سنة خمسة عشرة هـ .

وهكذا كان صلحًا في غاية التسامح مع أهل المدينة، وكل من يسكن معهم فيها.

بعد ذلك دعاه البطريرك صفرونيوس لتفقد كنيسة القيامة، فلبّى دعوته، وأدركته الصلاة وهو فيها، فالتفت إلى البطريرك، وقال له: "أين أصلى؟"، فقال: "صلِّ مكانك"، فخشي عمر أن يصلي فيها فيتخذها المسلمون من بعده مسجدا، فقال: "ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر ويبنون عليه مسجدا"، وابتعد عنها رمية حجر وفرش عباءته وصلى.

بعد ذلك بُني مسجد "عمر" في البقعة نقسها التي صلى فيها الخليفة عمر بن الخطاب، واستمر الحكم الإسلامي على القدس لمدة 400 سنة متتالية، إلى أن جاءت الحملة الصليبية الأولى في عام 1099.

ختاما :

ظلت القدس إسلامية عربية منذ العهدة العمرية الآنفة الذكر سنة (15هـ636م) حتى سنة (1387هـ - 1967م) باستثناء فترة الحروب الصليبية (1099م - 1187م).

وتوالت عصور التاريخ الإسلامي والمسلمون يعاملون أبناء الأديان الأخرى في القدس وغيرها أفضل معاملة عرفت في التاريخ لدرجة أن المؤرخ الإنجليزى الكبير "أرنولد توينبي" اعتبر ظاهرة التسامح الإسلامي ظاهرة فريدة وشاذة في تاريخ الديانات .

وكان أهل الذمة الأصليون يعاملون كأهل البلاد الأصليين دائمـًا لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في إطار ما نص عليه الإسلام ، وقد نص القرآن على معاملتهم بالحسنى ، ومجادلتهم بالتي هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم ، كما أوصى الرسول بهم خيرًا


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق