الامير عبد القادر الجزائري

 الأمير عبد القادر ابن محي الدين المعروف بـ عبد القادر الجزائري ولد في قرية القيطنة قرب مدينة معسكر بالغرب الجزائري يوم الثلاثاء 6 سبتمبر 1808 الموافق لـ 15 رجب 1223 هـ هو قائد سياسي وعسكري مجاهد عرف بمحاربته للاحتلال الفرنسي للجزائر قاد مقاومة شعبية لخمسة عشر عاما أثناء بدايات غزو فرنسا للجزائر، يعتبر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة ورمز للمقاومة الجزائرية ضد الاستعمار والاضطهاد الفرنسي.



هو الابن الثالث لمحي الدين (سيدي محي الدين): شيخ الطريقة الصوفية القادرية ومؤلف "كتاب ارشاد المريدين" الموجه للمبتدئين وأمه الزهرة بنت الشيخ سيدي بودومة شيخ زاوية حمام بوحجر وكانت سيدة مثقفة. ولد حوالي 6 ماي وقيل 6 سبتمبر 1808 وقيل أيضا 25 سبتمبر 1808

وفي روايات أخرى 23 رجب 1222 الموافق لـ 25 مايو 1807 بقرية القيطنة بولاية معسكر.

وقد ذُكر أن الأمير عبد القادر قال لتلميذه العايش: «أنا عبد القادر بن محي الدين بن مصطفى بن محمد بن المختار بن عبد القاضي بن أحمد بن محمد بن عبد القوي بن علي بن أحمد بن عبد القوي بن خالد بن يوسف بن بشار بن محمد بن مسعود بن طاوس بن يعقوب بن عبد القوي بن أحمد بن محمد بن إدريس أحد أبناء عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن حفيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وابن علي وفاطمة وحفيد أبي طالب بن هاشم، أنا عبد القادر بن محمد الدين وسليل النبي صلى الله عليه وسلم المرسل والمبعوث من الله وهو نفسه بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، إن أسالفي من الجانبين من الأشراف ساكني المدينة تفضيال، فأسالفي في الأمجاد كانوا مباشرين للنبي صلى الله عليه وسلم»

أسرته

كانت أسرة الأمير عبد القادر تعتز بامتداد حلقاتها إلى هذا المعدن الشريف، ففي القرن الثامن هاجر إدريس بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المغرب، هارباً من بطش العباسيين، وأنشأ دولة الأدارسة وعاصمتها فاس، ودام حكمها حتى النصف الثاني من القرن الثاني عشر. وبعد أن سكنت بعض سلالات العائلة الكبيرة الأندلس، انتقل أحد أجداده عبد القوي الأول في نهاية القرن الخامس عشر ـ بعد سقوطها عام (1492م) ـ واستقر بقلعة بني حماد قرب سطيف.

تقطن أسرة محي الدين في قرية على الضفة اليسرى لوادي الحمام على مسافة حوالي 20 كلم غربي مدينة معسكر، كانت الأسرة تعيش مما تدره عليها الأراضي الزراعية التي تملكها ومن العوائد التي يقدمها الأتباع والأنصار .

وهي من سلالة الحسني القرشي سليل قبيلة لها سلطة روحية تتمتع بنفوذ واسع وقد جرت الأسرة على تقديم الضيافة لعابري السبيل والمساعدة للمعوزين، فاشتهرت بالكرم إلى جانب شهرتها بالعلم والتقوى في قبيلة بني هاشم وخارج حدود هذه القرية وكذلك كان سكان المنطقة يقصدون كبار الأسرة لفض نزاعاتهم وللتحكيم في خصوصياتهم.

نشأته وتعليمه

تلقى دروسه الابتدائية في مسقط رأسه تحت إشراف والده؛ وختم القرآن الكريم قبل أن يبلغ الحادية عشرة، وتعلم مبادئ شتى العلوم اللغوية والشرعية، ونال درجة الطالب، وكلف بتحفيظ القرآن للأطفال، وإلقاء الدروس والتفسير في الزاوية.

ومن أجل إتمام دراسته سافر عام (1821م) إلى مدينة أرزيو الساحلية؛ التي تقع شمال مدينة معسكر، على بعد حوالي سبعين كيلو متراً، وذلك على يد القاضي الشيخ أحمد بن الطاهر البطيوي؛ الذي كان مشهوراً بغزارة العلم وسعة الاطلاع، وبعدها رحل إلى مدينة وهران إلى مدرسة العالم الفقيه أحمد بن خوجة، صاحب رائعة در الأعيان في أخبار وهران، وتوسع في المعارف اللغوية والفقهية والنحو والبيان والفلسفة والمنطق وصقل ملكاته الأدبية والشعرية، واجتهد في حضور حلقات العلم لعلماء وهران، مثل الشيخ مصطفى الهاشمي والشيخ بن نقريد، وقضى عامين كاملين في هذه الرحلة العلمية (1237-1239 هـ) (1821-1823 م)، وعاد إلى مسقط رأسه وتزوج بابنة عمه الآنسة خيرة بنت أبي طالب عام (1823م) وأقام في القيطنة معلمًا.

وكانت له رحلات علمية للقرويين والزيتونة، وكانت البيئة التي عاش فيها بيئة إسلامية وتربوية إيمانية واجتماعية متماسكة، وفي ظلها تكونت شخصيته، وهي التي أثرت في تكوينه النفسي والجسماني والفكري والاجتماعي والسياسي .شجعه والده على الفروسية وركوب الخيل ومقارعة الأنداد والمشاركة في المسابقات التي تقام آنذاك فأظهر تفوقا مدهشا.

رحلة الأمير لأداء فريضة الحج :

أذن لمحي الدين بالخروج لفريضة الحج عام 1241 هـ/ 1825م بعد أن كان تحت أمر الحاكم العثماني لوهران الذي قام بتحديد إقامته في بيته ، فخرج واصطحب ابنه عبد القادر معه وهو في سن الثامنة عشرة، فكانت رحلة عبد القادر إلى تونس ثم مصر ثم الحجاز ثم البلاد الشامية ثم بغداد، ثم العودة إلى الحجاز، ثم العودة إلى الجزائر مارًا بمصر وبرقة وطرابلس ثم تونس، وأخيرًا إلى الجزائر من جديد عام 1828م، فكانت رحلة تعلم ومشاهدة ومعايشة للوطن العربي في هذه الفترة من تاريخه، وما لبث الوالد وابنه أن استقرا في قريتهم "قيطنة"، ولم يمض وقت طويل حتى تعرضت الجزائر لحملة عسكرية فرنسية شرسة، وتمكنت فرنسا من احتلال العاصمة فعلاً في 5 يوليو 1830م، واستسلم الحاكم العثماني الداي حسين، ولكن الشعب الجزائري كان له رأي آخر.

تلقى الشاب مجموعة أخرى من العلوم فقد درس الفلسفة (رسائل إخوان الصفا - أرسطوطاليس - فيثاغورس) ودرس الفقه والحديث فدرس صحيح البخاري وصحيح مسلم، وقام بتدريسهما، كما تلقى الألفية في النحو والسنوسية والعقائد النسفية في التوحيد، وايساغوجي في المنطق، والإتقان في علوم القرآن، وبهذا اكتمل للأمير العلم الشرعي، والعلم العقلي، والرحلة والمشاهدة.

الأوصاف المعنوية للأمير عبد القادر:

لم يكن قاسيًا بطبعه، وخيرات الأرض لم تسيطر على قلبه، وقتاله للمسيحيين لكونهم معتدين غاصبين لا لدينهم

لقد وصف العديد من المؤرخين الأذواق والعادات والسلوك الاجتماعي لعبد القادر، منها: كان يزدري الترف في الملبس، فكانت كسوته بسيطة ولكنها نظيفة، كان غاية في التدين ويحمل دوماً مسبحة لا يقف عن التسبيح بها ذاكراً اسم الله، وكان باستطاعته امتطاء الفرس لمدة يوم أو يومين، وكان زاهداً مثالياً، كان الأكل عنده على الأكثر «الروينة» وهي نوع من العصيدة مصنوعة من طحين وحليب في كمية صغيرة، فلم يكن يقبل الطعام إلا لقوته وليس لذاته، في قلة الأكل وفرة للصحة هذا ما كان يقوله، وكان عفيفاً عن الأموال، وكان يمتنع من اقتطاع أي شيء من الخزينة العامة لأغراضه الشخصية، وكان يراقب موظفيه ويمنعهم من الإسراف، كما كان يحب الكتب، ويهتم بجمع المخطوطات، وكان يشجع الشعراء والكتاب الذين كانت أناشيدهم الملحمية تغذي إيمان المقاتلين، وكان يتذوق الشعر، وله ملكة شعرية، تدلنا أشعاره عليها، وتسجل أشعاره فترة تجديد في الشعر الجزائري، يكمن طابعها الجذاب دائماً في كونها ذات علاقة بالفعل والعمل وأنها تحمل إيمانه الوطني، اللغة، الصورة المجازية، تراكيب الأسلوب.. كلها مهدت لتجديد أدبي ينسجم مع مرحلة النضال والكفاح والجهاد والبناء.

لم يكن قاسيًا بطبعه، وخيرات الأرض لم تسيطر على قلبه، وقتاله للمسيحيين لكونهم معتدين غاصبين لا لدينهم، كان يؤم جنوده للصلاة يومياً، وكان يتأمل ويتدبر في معاني القرآن الكريم الذي كان زاده الروحي ومرجعه الكبير في خطبه ومواعظه، وكان يستلهم الصلابة والثبات والصمود من إيمانه العميق والمنهج الرباني في العسر واليسر والمنشط والمكره والرخاء والشدة.

الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي :

كان للجزائر قبل الاستعمار أسطول قوي، ومع مرور الزمن تقادم الأسطول حتى تحطّم كليا في معركة نافرين في 1827 عندما ساعدت الجزائر الدولة العثمانية ولم يبقَ منه سوى خمس سفن، فاغتنمت فرنسا الفرصة لتنفيد مشروعها الاستعماري في الجزائر. كانت الجزائر في القرن التاسع عشر من الدول العربية التي تتبع للدولة العثمانية. بدأ يدبّ الوهن في الدولة العثمانية ( الرجل المريض) و تزايد طمع الدول الأوروبية الاستعمارية عليها وعلى أقاليمها حيث وقعت كلها تحت الاحتلال الأوروبي بمختلف أشكاله ( وصاية . حماية . انتداب . احتلال مباشر كما هو الحال ).

الاحتلال الفرنسي للجزائر :

فرنسا، التي كانت تنوي احتلال الجزائر منذ عهد نابليون بونابرت، استعملت حادثة المروحة كذريعة لاحتلال للجزائر. فهاجمت الجزائر من ميناء طولون بحملة بلغ قوامها 37,600 جندي.

لمّا وصلت هذه الحملة إلى سيدي فرج في 14 يونيو 1830 الموافق 23 ذو الحجة 1245 هـ. وبعد الاحتلال فرضت فرنسا على الجزائريين قانون الأهالي.كان من نتائج الهجمة الاستعمارية الشرسة التي تعرضت لها المؤسسات التعليمية والوقفية والدينية، نضوب ميزانية التعليم وغلق المدارس وانقطاع التلاميذ عن الدراسة وهجرة العلماء. وبذلك فإن رسالة فرنسا في الجزائر كانت هي التجهيل وليس التعليم، مما يمكّن الفرنسيين من جعل الجزائر، أسهل انقيادا وأكثر قابلية لتقبّل مبادئ الحضارة الغربية. ولا تختلف السياسة التعليمية الفرنسية في الجزائر عبر مختلف مراحل الوجود الفرنسي عسكري كان أو مدني، لأنها كانت أهدافا واحدة وإن اختلفت التسميات .

لم تحتل فرنسا الجزائر بسهولة بل كانت هناك ثورات شعبية عديدة في كل إقليم وقفت في وجهها وقد عرقلت تقدم الاحتلال منذ دخوله.

لقد كان الشعب الجزائري رافضا الاستعمار الفرنسي جملة وتفصيلا، حيث واجهت فرنسا ثورات شعبية عديدة منها ثورة أحمد باي بن محمد الشريف في الشرق، ثورة عبد القادر الجزائري في الغرب، فاطمة نسومر في القبائل، وما كانت تخمد واحدة حتى تثور الأخرى إلى غاية القرن العشرين.

مبايعة الأمير عبد القادر بالإمارة : 

رغم الانتصارات التي حققها الجزائريون في غرب البلاد، لكنهم كانوا على يقين بأن المعركة مازالت طويلة مع العدو من جهة، وأن الإقليم محتاج إلى شخص ينظم إدارته من جهة أخرى.

ولهذا عرضت قبائل وأعيان الغرب للمرة الثانية من الشيخ محي الدين الامارة بتاريخ 22 نوفمبر 1832، قائلين له " إلى متى يا محي الدين ونحن بلا قائد؟ إلى متى وأنت واقف جامد متفرج على حيرتنا. أنت يا من يكفي إسمه فقط يجمع كل القلوب لتدعيم وتماسك القضية المشتركة..." وقد أضاف أحد الحاضرين قائلا لمحي الدين " عمت الفوضى في البلاد والعدو دخل المساجد، وأحرق الكتب، وهدم الدور على أصحابها، ولابد من سلطان له سلطة شرعية، وقد اخترناك لتحمل هذه المسؤولية."

لكن الشيخ محي الدين اعتذر مرة أخرى لكبر سنه وقال " أشكر ثقتكم ولكن أعتذر عن قبول هذا المنصب، فأنا الآن أقوم بواجبي الديني والوطني مقاتلا في سبيل الله كأي أحد منكم." و في ذات الوقت لم يمانع في ترشيح ابنه قائلا " إن كان رأيكم وثقتكم بولدي عبد القادر كرأيكم بي فأنا متنازل له عن هذه البيعة، فتشاوروا فيما بينكم، وإذا عقدتم العزم فموعدنا في سهل غريس تحت شجرة الدردارة صباح الاثنين 27 نوفمبر 1832." و هذا ما حدث بالفعل فقد تمت مبايعة الأمير عبد القادر في نفس المكان وفي نفس الموعد، بايعوه بالإمارة ولقبوه ب " ناصر الدين " وكانت هذه البيعة الأولى .

وبعد البيعة الأولى، وقعت بيعة ثانية (البيعة العامة) في قصر الإمارة بمعسكر في 4 فيفري 1833 ،حيث حررت وثيقة أخرى للبيعة وقرئت على الشعب وتولى كتابتها محمود بن حوا المجاهدي أحد علماء المنطقة وقد وجه خطابه الأول إلى كافة العروش قائلاً: "… وقد قبلت بيعتهم (أي أهالي وهران وما حولها) وطاعتهم، كما أني قبلت هذا المنصب مع عدم ميلي إليه، مؤملاً أن يكون واسطة لجمع كلمة المسلمين، ورفع النزاع والخصام بينهم، وتأمين السبل، ومنع الأعمال المنافية للشريعة المطهرة، وحماية البلاد من العدو، وإجراء الحق والعدل نحو القوى والضعيف، واعلموا أن غايتي القصوى اتحاد الملة المحمدية، والقيام بالشعائر الأحمدية، وعلى الله الاتكال في ذلك كله.

مراحل مقاومة عبد القادر :

مرت مقاومة الأمير عبد القادر بثلاث مراحل وهي:

مرحلة الانطلاق والقوة (1832-1837)

سميت مرحلة الانطلاق لأنها شهدت بداية مقاومة الأميرعبد القادر للاحتلال الفرنسي كأمير وقائد للجهاد، وبداية بناء اللبنة الأولى للدولة الجزائرية الحديثة من جهة، ووصفت من جهة أخرى بمرحلة القوة لأن ميزان القوة كان لصالح قوات الأمير، حيث تفوق في أغلب المواجهات العسكرية بينه وبين العدو، وانتهت هذه المرحلة بإبرام معاهدة التافنة التي اعترفت فيها فرنسا بدولته.


وكان من أهم الأحداث التي شهدتها هذه الفترة:

    اتخاذ معسكر عاصمة له، اعترافا لسكان منطقتها في انطلاق الجهاد المنظم.

    شرع الأمير في تشكيل حكومته في فيفري 1833 ، و تعيين القضاة، وتنصيب الولاة في مختلف أنحاء الإمارة، كما شكل مجلسا للشورى من 11 عالما. علما أنه كان يدقق في اختيار خلفائه وأعوانه، فكان يتحرى فيهم الكفاءة والقوة والتقوى. وبمرور الوقت أنشأ الأمير كذلك الدواوين والإدارات المركزية.

    عمل الأمير على توحيد القبائل حول مبدأ الجهاد وتحت سلطته، وانتزاع من الفرنسيين كثيراً من القبائل التي كانت قد تحالفت معهم، كما ألزمها بالتشبت بأرضها. وبالمقابل اعتبر المتعاونين معهم مرتدين عن الإسلام.

    مقاطعة المحتلين ومحاصرة مراكزهم في وهران ومستغانم، وحملهم على الخروج من معاقلهم لقتال بالداخل.

    الاستيلاء على ميناء أرزيو واستخدامه في توريد السلاح والاتصال بالعالم الخارجي .وذلك قبل أن تستولي عليه فرنسا.

    تنشيط مدن الداخل والسهول العليا كتلمسان ومليانة والمدية وقصر البخاري ...وجعلها محاور اقتصادية واجتماعية وعسكرية للدولة.

    توسع نفوذ الأمير ليشمل كل الغرب الجزائري ماعدا وهران ومستغانم وأرزيو، كما توغل في إفليم التيطري واستولى على مليانة في أفريل 1835، وعلى المدية في الشهر التالي، وتوسع شرقا فأحذ مدينة بسكرة.

    شرع في تكوين جيش نظامي وطني.


معاهدة دي ميشال 1834 :

تمكن الأمير عبد القادر في المرحلة الأولى من مقاومته من مواجهة الجيش الفرنسي وإجباره على التمسك والاكتفاء بالبقاء في مدن: مستعانم، أرزيو ووهران، وقد عمد الأمير إلى فرض حصار اقتصادي على هذه المدن الثلاثة. وفي هذا الصدد يذكر بعض المؤرخين أن نظام الحصار الذي ضربه عبد القادر كان تأشير مهلك على القوات الفرنسية " حتى أصبحوا كالطيور الكاسرة يبحثون ويقعون على طعامهم في المناطق الداخلية."


وفي أواخر شهر أكتوبر 1833 قام رجل من قبيلة " البرجية " باختراق الحصار، وقصد أرزيو لتموين قوات الاحتلال، وعندما أتم صفقة البيع مع العدو طلب من الفرنسيين توفير حماية له للعودة إلى قبيلته، خشية من جنود الأمير، فكان له ذلك حيث أرسلوا معه ضابط وأربعة جنود، وفي طريقهم اتقض عليهم 100 فارس جزائري، فقتلوا جنديا وأسروا الباقين في معسكر.

على إثر هذه الحادثة كتب الجنرال ديمشال إلى الأمير يطلب منه إطلاق سراح الجنود الأسرى، ويقول ديمشال في رسالته " هؤلاء الجنود الأسرى سقطوا في كمين بينما كانوا يحمون عربيا. " فكان رد الأمير " ذلك ليس حجة في نظري، فالحامون والمحمي كانوا سواء أعدائي، وإن كل العرب الذين يشيدون بك هم ليسوا مؤمنين حقيقيين وجهلاء بواجبهم."

ونظراً لشدة وطأة الحصار الاقتصادي المفروض على الفرنسيين في كل من وهران ومستغانم وأرزيو راسل الجنرال ديمشال الأمير لكن هذه المرة ليعرض عليه صراحة إجراء مقابلة معه وعقد معاهدة سلم تحقن دماء " شعبين فرضت عليهما العناية الإلاهية أن يتعايشا في ظل حكم واحد."


    توقيع المعاهدة في 26 فيفري 1834:

اضطر الجنرال الفرنسي ديمشيل إلى ابرام معاهدة هدنة مع الأمير عبد القادر بتاريخ 26 فيفري 1834، الذي اعتبرها هذا الأخير فرصة لتوطيد مركزه وتوسيع نفوذه خارج اقليمه، وكذا حيازة اعتراف العدو به وبدولته . وأهم ما نصت هذه المعاهدة من بنود نوجزها فيمايلي :


    وقف القتال بين الطرفين.

    اعتراف ديميشيل بإمارة الأمير على كامل البلاد في المقابل اقراره لفرنسا على مدن : الجزائر، وهران، أرزيو ومستغانم.

    تعيين وكلاء من الأمير عبد القادر بوهران ومستغانم وأرزيو، كي لا تقع خصومة بين الفرنسيين والعرب، وبالمثل يقام وكيلا عن فرنسا ضابط فرنسي في معسكر .

    يلزم رد الأسرى من الفريقين.

    اعطاء الحرية كاملة للتجارة.

    تلتزم العرب بإرجاع كل من يفر إليهم من العسكر الفرنسي ويلتزم الفرنسيون بتسبيم كل من يفر إليهم من أهل الجرائم الهاربين من القصاص إلى وكلاء الأمير في المدن الثلاث.

    كل أوروبي سيعطى له إذا رغب في السفر داخل البلاد جواز سفر موقعًا عليه من ممثلي الأمير ومصادقًا عليه من القائد العام، وبذلك يحصل على الحماية في جميع الأقاليم.


اعتبر الجنرال ديمشال توقيع هذه المعاهدة انتصارًا دبلوماسيًا، حيث قال " إنني أعلن لكم استسلام إقليم وهران الذي يعتبر أكبر جزء في ولاية الجزائر وأكثرها محاربة، الفضل في هذا الحادث الكبير يعود إلى الميزات التي امتازت بها القوات التي أقودها." أما الأمير عبد القادر فقد كان راضيا باعتبار أنه نجح في ارغام عدوه على طلب السلام، ووضع شروطه الخاصة، ولم يدفع أي جزية، ولم توضع أي حدود على منطقته. وفضلا عن ذلك كانت عند الأمير وثيقة سرية وقع عليها ديميشال تقضي باعطاء الامير الحرية الكاملة لشراء الأسلحة من غير الرجوع إلى فرنسا وكذا احتكاره للتجارة، بمعنى أن ممثلي الأمير هم الوحيدون المسموح لهم بشراء وبيع القمح والشعير وباقي الإنتاج الفلاحي، وهم كذلك الذين يحددون الأسعار في الأسواق . وبناء على ذلك أصدر الأمير عبد القادر أوامره بمنع العرب من بيع منتوجهم الفلاحي مهما كان نوعه إلى المسيحيين سواءً كانوا من أهل البلاد أو أجانب.


وعلى صعيد آخر استغل الأمير هذه الهدنة ليلتف إلى أحوال البلاد، فعمل جاهدا على تشييد الحصون، وإقامة القلاع، كما قام على صنع السلاح وإنتاج الذخيرة الحربية، وفي ذات الوقت عمل على تنظيم صفوف الشعب وتوحيد الجماهير حوله دفاعًا عن الوطن وحماية للدين.

نقض معاهدة دي ميشال :

كعادتها قامت فرنسا بنقض معاهدة ديميشال، فكما قال شكيب أرسى لان " كانت معاهدات الدول الاستعمارية مع أهالي الأقطار... هي في الغالب محاط استراحة بين الحملة والحملة، ومنازل استجمام بين مراحل الحرب لاغير، بحيث لا تعدم عذرا لدى توفر القوة في نقض المعاهدات التي لم تبرمها منذ البداية إلا على نية النقض."

حيث بمجرد عزل الحكومة الفرنسية الجنرال ديميشيل عن قيادة وهران في 15 جانفي 1835، واستبداله بالجنرال تريزيل Trézel ) حتى قام هذا الأخير بنقض المعاهدة، وذلك بعد اقدامه على توفير الحماية لقبائل الزمالة والدوائر المتمردة على الأمير. ومقابل هذه الحماية اعترفت القبيلتان بسيادة فرنسا والتزامهما بدفع ضريبة سنوية.

ويذكر أن هذه القبائل استأنفت المبادلات الودية مع الفرنسيين، فهدد الأمير أن يعيدها بالقوة إلى تلمسان، ولكن تلك القبائل فضلت الحماية الفرنسية في الحال على التخلي عن منتجاتها الزراعية وتجارتها، وقد لبى الجنرال تريزل طلبهم. حيث كان يري أن فرنسا تضيع وقتا حين تترك الفرصة للأمير ليشتد سلطانه ويقوي نفوذه، وعليه فلابد من محاربة الأمير والقضاء على قواته.

واعتبر الأمير عبد القادر هذا العمل منافيا ومخالفا للاتفاق المبرم بين دولته ودولة فرنسا، حيث ينص الاتفاق " أن لا تقبلوا من يلتجئ إليكم من العرب، كما أننا لا نقبل من يفر إلينا من الفرنسيين." و أجابت فرنسا أن المعاهدة لا تشمل أشخاص يريدون تغيير محل إقامتهم وإنما تشمل على كلمة " هارب "، و أجاب الأمير " إن الحكومة الفرنسية ملزمة بأن ترد إلي كل مذنب إلتجأ إليها، إذا كان رجلا واحدا، فكيف بالعشيرة والقبيلة." و بمجرد استئناف الطرفين الحرب، خاض الأمير عبد القادر عدة معارك مع الجيش الفرنسي خسر في البعض منها وانتصر في البعض الآخر كمعركة التافنة المشهورة سنة 1836.

معاهدة التافنة (30 ماي 1837) :

اضطرت فرنسا أن تعقد صلحا آخر مع الأمير عبد القادر، وكلفت هذه المرة الجنرال بيجو يوم 23 ماي 1836 بالتفاوض معه، وذلك لتحقيق الأغراض الآتية:

    التفرغ للقضاء على مقاومة أحمد باي في الشرق الجزائري.

    إعداد فرق عسكرية خاصة بحرب الجبال.

    فك الحصار عن المراكز الفرنسية.

    انتظار وصول الإمدادات العسكرية من فرنسا.

أما الأمير عبد القادر فقد قبل الهدنة قصد تحفيف معاناة الشعب الجزائري والتقاط الأنفاس وتوسيع نفوذه في البلاد وحيازة اعتراف فرنسا به، مما قد يكسبه الاعتراف الدولي مستقبلاً ويؤكد اعتداء فرنسا على بلاده وشعبه. وقد أدت الاتصالات بين الطرفين إلى ابرام معاهدة التافنة في 30 ماي 1837 والتي نصت على وجه الخصوص بمايلي:

 إن الأمير يعترف بسلطة دولة فرنسا على مدينة الجزائر وسهل متيجة، وعلى مدن وهران ومستغانم وأرزيو.

 على دولة فرنسا أن تعترف بإمارة الأمير عبد القادر على اقليم وهران وإقليم التيطري، والقسم الذي لم يدخل في حكم فرنسا من إقليم مدينة الجزائر من الناحية الشرقية. ولا يحق للأمير أن يمد يده لغير ما ذكر من أرض الجزائر.  يمكن للأمير أن يشتري من فرنسا البارود والكبريت وسائر ما يحتاجه من الأسلحة.

  على فرنسا أن تتخلى للأمير على مدينة تلمسان وقلعة المشور ورشغون مع المدافع القديمة التي كانت فيها قديما .ويتعهد الأمير بنقل الذخائر الحربية والأمتعة العسكرية التي للعساكر الفرنسية في تلمسان إلى وهران.

   تطبيق مبدأ التجارة الحرة بين الطرفين.

وبناء على هذه الشروط تكون هذه المعاهدة اعترافًا صريحًا من حكومة فرنسا بإمارة الأمير التي أصبحت تشمل ثلاثة أرباع مقاطعة الجزائر زيادة عن ولاية وهران كلها، باستثناء المدن السالفة الذكر.

تنظيم الدولة ( 1839-1837) :

ظهرت عبقرية الأمير عبد القادر الجزائري في بناء الدولة في عدة تجليات، منها العسكرية والسياسية، وعلى صعيد الصناعة والتجارة وبناء مؤسسات القضاء والتعليم والمؤسسات السيادية الأخرى عفندما تولى عبد القادر الإمارة كانت الوضعية الاقتصادية والاجتماعية صعبة، لم يكن له المال الكافي لإقامة دعائم الدولة إضافة إلى وجود معارضين لإمارته، ولكنه لم يفقد الامل إذ كان يدعو باستمرار إلى وحدة الصفوف وترك الخلافات الداخلية ونبذ الأغراض الشخصية...كان يعتبر منصبه تكليفا لا تشريفا. وفي نداء له بمسجد معسكر خطب قائلا:«إذا كنت قد رضيت بالإمارة، فإنما ليكون لي حق السير في الطليعة والسير بكم في المعارك في سبيل ”الله“...الإمارة ليست هدفي فأنا مستعد لطاعة أيّ قائد آخر ترونه أجدر منّي وأقدر على قيادتكم شريطة أن يلتزم خدمة الدّين وتحرير الوطن»

إن وحدة الأمة جعلها الأمير هي الأساس لنهضة دولته واجتهد في تحقيق هذه الوحدة رغم عراقيل الاستعمار والصعوبات التي تلقاها من بعض رؤساء القبائل الذين لم يكن وعيهم السياسي في مستوى عظمة المهمة وكانت طريقة الأمير في تحقيق الوحدة هي الإقناع أولا والتذكير بمتطلبات الإيمان والجهاد، لقد كلفته حملات التوعية جهودًا كبيرة لأن أكثر القبائل كانت قد اعتادت حياة الاستقلال ولم تألف الخضوع لسلطة مركزية قوية. بفضل إيمانه القوي انضمت اليه قبائل كثيرة بدون أن يطلق رصاصة واحدة لإخضاعها بل كانت بلاغته وحجته كافيتين ليفهم الناس أهدافه في تحقيق الوحدة ومحاربة العدو، لكن عندما لا ينفع أسلوب التذكير والإقناع، يشهر سيفه ضدّ من يخرج عن صفوف المسلمين أو يساعد العدوّ لتفكيك المسلمين، وقد استصدر الأمير فتوى من العلماء تساعده في محاربة أعداء الدّين والوطن.

لقد قام الأمير بإصلاحات اجتماعية كثيرة، فقد حارب الفساد الخلقي بشدّة، ومنع الخمر والميسر منعًا باتا ومنع التدخين ليبعد المجتمع عن التبذير، كما منع استعمال الذهب والفضة للرّجال لأنّه كان يكره حياة البذخ والميوعة.

تأسيس الجيش النظامي:

بعد معارك طاحنة خاضها الأمير ضد الجيوش النظامية الفرنسية، أدرك ضرورة خلق جيش نظامي قوي، فاتجه إلى إنشاء جيش نظامي واهتم بتدريبه على أحدث الفنون العسكرية، وزوده بالأسلحة المتقدمة، وقد قسم هذا الجيش إلى ثلاث فرق:

أولاً: فرقة المشاة، ولَّى على قيادتها من مشاهير الأبطال قدور بن بحر.

ثانياً: فرقة من الخيّالة، ولَّى على قيادتها عبد القادر بن عز الدين.

ثالثاً: فرقة من المدفعية، ولَّى على قيادتها محمد السنوسي.


الحكومة المركزية:

كان الأمير يرى أن تنظيم الجبهة الداخلية وتوطيدها هما الأساس الأول الذي ينبغي أن تقوم عليه حرب التحرير، وكان هدفه قبول التفاوض والتساهل مع العدو، وكسب الوقت لاستكمال أسباب هذا التنظيم. لقد شرع الأمير عبد القادر في تكوين جيش وطني، وفي إنشاء المؤسسات، وفي وضع قوانين جديدة مستمدة من الشريعة الإسلامية، وصك عملة باسمه، واستطاع تأسيس دولة ذات طابع جزائري خاص، على قاعدة شعبية، وحدد الأهداف التي يرمي إلى تحقيقها من خلال تنظيم المقاومة الجزائرية والتي من أهمها:


* نشر الأمن وتأديب الخونة العصاة.

* توحيد القبائل حول مبدأ الجهاد.

* مقاومة الفرنسيين بكل الوسائل.

* دفع الفرنسيين إلى الاعتراف بالجزائر، كدولة وبعبد القادر أميراً للبلاد.


تقسيم البلاد إلى ثماني ولايات:

اتخذ الأمير في كل مقاطعة داراً للشورى لبحث الأمور الهامة في الدولة، وجعل انتخاب أعضاء هذه المجالس «مجالس الشورى» من قبل النّواب الذين كانوا يُدعون بالخلفاء

قام التنظيم الإداري لدولة عبد القادر على أسس فدرالية، يتمثل في وجود (8) مقاطعات إدارية، يرأس كل مقاطعة خليفة للأمير، ويتواجد هؤلاء الخلفاء في:

* تلمسان، محمد البو حميدي الولهاصي.

* معسكر، محمد بن فريحة المهاجي، ثم مصطفى بن أحمد التهامي.

* مليانة، محيي الدين بن علال القليعي ثم محمد بن علال.

* التيطري، مصطفى بن محيي الدين ثم محمد البركاني.

* مجانة، محمد بن عبد السلام المقراني، ثم محمد الخروبي.

* بسكرة، فرحات بن سعيد ثم الحسين بن عزوز.

* برج حمزة، أحمد بن سالم الدبنيسي.

* المنطقة الغربية من الصحراء، قدور بن عبد الباقي.

معايير تعيين موظفي الدولة ومناصبهم:

كان يتم اختيار موظفي الدولة من أبناء الشعب الجزائري وزعماء القبائل، والأعيان، والعلماء، وأصحاب المكانة المرموقة من ذوي الكفاءات والقدرات والملكات الإدارية والقيادية. كان كل موظف في الدولة ابتداءً من أسمى موظف وهو الخليفة إلى أبسط الشيوخ، يملك في نطاقه كامل السلطة الإدارية والعسكرية والمالية على قمة السلم، كان الخليفة بتفويض من الأمير الذي كان يمثله يملك السلطة المطلقة في ولايته التي يقود جيشها في وقت الحرب ويتحكم في آغاتها وقيادتها وشيوخها، وكان يحكم في القضايا التي تتعلق بالدولة وقضايا الاستئناف ضد أحكام وقرارات الآغات، وقد كانت تتجمع عنده الضرائب التي يرفعها الآغات والقيادة والشيوخ. ومدة خدمته غير محددة؛ لأنه كان يختار لكفاءته وإخلاصه وقد تبين أنهم جميعاً أهل لثقة الأمير، فلم يخن أي منهم هذه الثقة على الرغم من محاولات العدو رشوتهم.


السلطة القضائية:

كانت السلطة القضائية في دولة الأمير عبد القادر منفصلة عن السلطة التنفيذية، بقدر ما كان من يمارسها منفذاً للقانون، وليس ممثلاً للأمير، مع أن هذا الأخير هو الذي يعينه، وقد كانت صلاحيته واسعة، تشمل نظام الأحوال الشخصية والميراثية، والشؤون العقارية، وكان أيضاً يصادق على العقود المحررة من طرف الكاتب الشرعي أو الموثق الذي كان يزاول وظائفه في مقر القضاء، كما كانت صلاحية القاضي تمتد حتى إلى القضايا الجنائية. كان القاضي بطبيعة منصبه شخصية مهمة، وكان يتم اختياره لثقافته وخصاله الفاضلة، وكان يعين إما من بين العلماء المشهورين، أو عند تعذر ذلك فبامتحان.

مجلس الشورى:

اتخذ الأمير في كل مقاطعة داراً للشورى لبحث الأمور الهامة في الدولة، وجعل انتخاب أعضاء هذه المجالس «مجالس الشورى» من قبل النّواب الذين كانوا يُدعون بالخلفاء، وربط هذه المجالس بالمجلس الأعلى للبلاد، المؤلف من أحد عشر عالماً، وبمجالس الاستئناف. كان مجلس الشورى الأعلى في الدولة الفتية ينعقد والأمير في وسطه، وكان يتفحص الطعون في قرارات القضاة، ويشكل هذا المجلس علماء أجلاء، كانوا يتمادون في التدقيق عندما تعارضهم مشاكل عويصة، إلى أن يطلبوا باسم الأمير رأي العلماء المعروفين بتعمقهم في علوم الشريعة، في الغالب كانوا يستشيرون علماء جامعة القرويين بفاس، كذلك كان يستشار علماء الأزهر في بعض الأحيان.

الاقتصاد:

لقد أنشأ الأمير نظاماً اقتصادياً تشرف عليه الدولة، الهدف منه جعل اقتصاد البلاد في خدمة الغايات القتالية بصورة خاصة، ومصلحة الفقراء والشعب بصورة عامة، فكان الجباة يخرجون مرتين في السنة لجباية الزكاة والأعشار بعد أن يُقْسِموا على القرآن الكريم بألا يظلموا أحداً وألا يعتدوا على أحد. كانت إيرادات الدولة الفتية تستعمل في نفقات الإدارة والجيش على الأغلب، ويجدر التوضيح هاهنا بأن كل الرواتب والمعاشات كانت تدفع نقداً وعيناً بالسلع الغذائية على وجه الخصوص وأنها كانت تتم بانتظام. لقد بقيت عملة الأمير متداولة حتى بعد استسلامه، واستمرت كذلك إلى أن أخذت السلطة الاحتلالية سنة (1849م) إجراءات خاصة لسحبها من التداول.

الصناعة:

لم يكن بحث الأمير وتخزينه للمعادن الخالصة ضرورياً فقط لصنع عملته، بل كذلك من أجل تكوين صناعة قادرة على جعله مستقلاً عن الخارج، وقد استطاع في سنة (1839م) أن يجمع بين ألفي قنطار من الحديد ومئتين من النحاس، وقد تمخضت أبحاثه عن اكتشاف منجم للكبريت قام مباشرة باستغلاله، ومنجم آخر للرصاص، وقد جعل من مدنه قواعد صناعية بإنشاء مصانع ومخازن للبارود في معسكر، مليانة، المدية، وتاكدمت، ومعامل للسلاح في مليانة بفضل استخراج الحديد الخام من جبل زكار المطل على المدينة وقد استغرق بناء المصنع حوالي 8 أشهر. وكان يشرف على إدارة هذا المصنع مهندس فرنسي هارب يدعي الكي كاز بمساعدة عمال أوروبيين أغلبهم من المساجين والهاربين من الجيش الفرنسي.، كما أنه قد أنشأ مسابك المدافع في تلمسان، ولم تكن هذه المراكز مخصصة لصنع الأسلحة فقط، كذلك كانت تصنع الملابس للعسكريين والمدنيين على حد سواء.

إنشاء المستشفيات:

اجتهد الأمير عبد القادر في تطوير دولته وأحدث أموراً كثيرة، ومن أهمها إنشاء المشافي العامة والخاصة، فكان في كل مقاطعة عدة مستوصفات ومشافٍ خاصة بالمقاتلين، تصحبهم في كل موقعة ومعركة، وعيّن لكل مشفى أربعة أطباء أكفاء يرأسهم طبيب مشهور.


مرحلة الضعف (1847-1839)حرب الإبادة :

بادر المارشال فالي إلى خرق معاهدة التافنة بعبور قواته الأراضي التابعة للأمير، فتوالت النكسات خاصة بعد أن انتهج الفرنسيون أسلوب الأرض المحروقة ، كما هي مفهومة من عبارة الحاكم العام الماريشال بيجو: " لن تحرثوا الأرض، وإذا حرثتموها فلن تزرعوها ،وإذا زرعتموها فلن تحصدوها ."


فلجأ الفرنسيون إلى الوحشية في هجومهم على المدنيين العزل فقتلوا النساء والأطفال والشيوخ ، وحرقوا القرى والمدن التي تساند الأمير. و في هذه المرحلة بدأت الكفة ترجح لصالح العدو بعد استيلائه على عاصمة الأمير تاقدامت 1841، ثم سقوط الزمالة -عاصمة الأمير المتنقلة- سنة 1843 وعلى إثر ذلك اتجه الأمير إلى المغرب في أكتوبر عام 1843 الذي ناصره في أول الأمر ثم اضطر إلى التخلي عنه على إثر قصف الأسطول الفرنسي لمدينة(طنجة والصويرة)، و تحت وطأة الهجوم الفرنسي يضطر السلطان المغربي إلى طرد الأمير عبد القادر، بل ويتعهد للفرنسيين بالقبض عليه. الأمر الذي دفعه إلى العودة إلى الجزائر في سبتمبر 1845 محاولاً تنظيم المقاومة من جديد.

محاصرة الامير واستسلامه عام 1847م :

اضطر الأمير عبد القادر إلى الانسحاب إلى المغرب الأقصى أمام ضغط الجيش الفرنسي القوي طالبًا من سلطان المغرب عبد الرحمن بن هاشم مساعدته محذرا اياه من سقوط الجزائر، لأن ذلك سيؤدي إلى سقوط المغرب وبلدان إسلامية كثيرة تحت السيطرة الإستعمارية، لكنه لم يستمع إلى نصائح الأمير متذرعا بمواجهة المتمردين ضد السلطان في المغرب، وكأن مواجهة الشعب الثائر ضده أفضل من مواجهة المحتل الذي يهدد أرض الإسلام. وأكثر من ذلك تعاون هذا السلطان مع الجيش الفرنسي لمحاصرة الأمير عبد القادر الذي اضطر للإستسلام في عام 1847 بعد محاصرته من طرف الجيش الفرنسي شرقًا وجيش السلطان المغربي غربًا وخيانة بعض القبائل له. ولم يستسلم الأمير إلا بعد أن اشترط على الجيش الفرنسي إعطاء عهد الأمان لجميع رفاقه وجنوده والسماح لهم بالالتحاق بقبائلهم، أما هو فطلب السماح له بالهجرة إلى الإسكندرية بمصر أو عكا بفلسطين، وإذا لم تقبل فرنسا بهذين الشرطين فإنه الجهاد حتى الموت. وكان هدف الأمير من ذلك هو إبقاء شعلة المقاومة ضد الإستعمار ملتهبة على يد رفاقه بعدما يضمن لهم الحياة، وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد مما يدل على بعد نظر الأمير عبد القادر.

الأمير عبد القادر في الأسر :

بعد استسلام الأمير سنة 1847؛ ألقي القبض عليه من طرف الفرنسيين الذين أخلفوا الاتفاق معه، إذ كان يقضي الاتفاق بالسماح له ولحاشيته بالمغادرة إلى مصر أو فلسطين؛ لكن جرى اعتقاله ونقله مع عائلته وحاشيته المقرَّبة إلى فرنسا، حيث سجن في ظروف شديدة السوء، خصوصًا على حاشية الأمير، لدرجة أن كثيرًا منهم عانى المرض والجنون وحتى الموت.

ظل الأمير عبد القادر في سجون فرنسا يعاني من الإهانة والتضييق حتى عام 1852 م ثم استدعاه نابليون الثالث بعد توليه الحكم، وأكرم نزله، وأقام له المآدب الفاخرة ليقابل وزراء ووجهاء فرنسا، ويتناول الأمير كافة الشؤون السياسية والعسكرية والعلمية، مما أثار إعجاب الجميع بذكائه وخبرته، ودُعي الأمير لكي يتخذ من فرنسا وطنًا ثانيًا له، ولكنه رفض، ورحل إلى الشرق براتب من الحكومة الفرنسية. توقف في إسطنبول حيث السلطان عبد المجيد، والتقى فيها بسفراء الدول الأجنبية، ثم استقر به المقام في دمشق منذ عام 1856 م وفيها أخذ مكانة بين الوجهاء والعلماء، وقام بالتدريس في المسجد الأموي كما قام بالتدريس قبل ذلك في المدرسة الأشرفية، وفي المدرسة الحقيقية.

في منفاه بدمشق

استقر الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق من عام 1856 إلى عام وفاته عام 1883، أي 27 سنة. ومنذ قدومه إليها من إسطنبول تبوأ فيها مكانة تليق به كزعيم سياسي وديني وأديب وشاعر.. وكانت شهرته قد سبقته إلى دمشق، فأخذ مكانته بين العلماء والوجهاء، فكانت له مشاركة بارزة في الحياة السياسية والعلمية. قام بالتدريس في الجامع الأموي، وبعد أربعة أعوام من استقراره في دمشق، حدثت فتنة في الشام عام 1860 واندلعت أحداث طائفية دامية، ولعب الأمير عبد القادر دور رجل الإطفاء بجدارة، فقد فتح بيوته للاجئين إليه من المسيحيين في دمشق كخطوة رمزية وعملية على احتضانهم. وهي مأثرة لا تزال تذكر له إلى اليوم إلى جانب كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي في بلاده الجزائر.

بالإضافة إلى مكانة الأمير عبد القادر الوجاهية في دمشق، فقد مارس حياة الشاعر المتصوف، فنجده لا سيما في قدومه من بلاد المغرب (الجزائر) متجولاً في المشرق وتركيا، ثم اختياره لدمشق موطناً حتى الموت. وربما ليس من باب المصادفة أن يدفن الأمير عبد القادر بجانب ضريح الشيخ الأكبر في حضن جبل قاسيون. . يرى الكثيرمن المثقفين أن الأمير عبد القادر لم ينل حقه من الإنصاف، وقلما يذكر إلا كمجاهد قديم، جاء من الجزائر إلى الشام ليستريح في أفياء غوطتها الغناء بينما في حقيقة الأمر، يرون أنه كان من أحد أكبر أعلام تلك المرحلة، وأنه هو وأحفاده فيما بعد، دخلوا التاريخ السوري من بابه الواسع.

حادثة باب توما بسوريا :

في سنة 1860، اندلعت في جبل لبنان الواقع آنذاك تحت الحكم العثماني، أحداث عنف بين طائفة الموارنة المسيحيين والدروز، ويمكن رصد هذا التوتُّر الطائفي قبل هذا التاريخ؛ إذ حدثت أحداث أقلُّ حدة قبلها في سنوات الأربعينيات في شكل تنافس على منصب حاكم جبل لبنان، مما أدى إلى اقتسام المنطقة بين شمال وجنوب لكلٍّ حاكمه. ولا يمكن إغفال التدخلات الأجنبية في المسألة الطائفية في منطقة الشام، خصوصًا وأن الدولة العثمانية حينها كانت في مرحلة ضعف سياسي؛ مما أدى بفرنسا وبريطانيا إلى التدخُّل بشكل غير مباشر بذريعة حماية الأقليات الدينية، ففي حين حملت فرنسا لواء الدفاع عن الموارنة المسيحيين، دعمت بريطانيا الدروز ردًّا على الفرنسيين.

في ظل هذه الأجواء المشحونة؛ تشكَّلت فرق شبه عسكريَّة من الدروز والمسلمين، وبدأ الهجوم على الموارنة الذين كانوا يشكِّلون أقليَّة، وبدأت عمليات القتل والنهب والتخريب وحرق الكنائس؛ هنا تدخَّل الأمير عبد القادر بالتنسيق مع المهاجرين الجزائريين المقيمين في دمشق، وجيرانه من العائلات الدمشقية العريقة، التي كانت تجمعه بهم علاقات طيَّبة؛ إذ فتحوا بيوتهم للمسيحيين للاختباء هناك طيلة أسبوعين؛ وتشير تقديرات إلى أن حوالي 15 ألف مسيحي اختبؤوا في هذه البيوت ونجوا من الموت المحقَّق، ومن بين هؤلاء الذين حماهم الأمير، الرهبان والراهبات والقناصل الأجانب، كما أمَّن الأمير ومساعدوه الطرق والمسالك للمسيحيين الفارين من دمشق إلى بيروت، وساعدهم بالحراسة والحماية، وهو ما أدَّى إلى نجاة مئات المسيحيين اللاجئين من الموت.

الإضافة إلى ذلك فإن الأمير عبد القادر لم يمنع المجزرة الدموية من التمادي فحسب، بل أوقف أيضًا بذلك القوات الفرنسية من احتلال دمشق حينها؛ إذ كانت تستعد فرنسا لإرسال كتائب عسكرية للتدخُّل بذريعة حماية المسيحيين، ويذكر المؤرخ شارل هنري تشرشل أن الأمير عبد القادر كان من بين القليلين الذين تفطَّنوا لقرب وقوع هذه الأحداث، واكتشفها قبل حدوثها «ولذلك فقد استعدَّ لها بالتعاون مع رجاله من المهاجرين الجزائريين والعائلات الدمشقية التي كانت تسكن في جواره، الذين فتحوا ديارهم لاستقبال المسيحيين وحمايتهم من الغوغاء».

وقد أنقذ الأمير عبد القادر من القتل والتعذيب بشكل مباشر، من الذين لجأوا إلى داره، حوالي 15 ألف من المسيحيين والرهبان والراهبات، كما أنه أمن لعدد من المسيحيين طريقًا آمنًا للذهاب إلى بيروت هربًا من الأحداث، بناء على طلبهم.

نظير مواقفه الإنسانية في سوريا في حماية الطوائف المسيحية في سوريا بغض النظر عن جنسياتهم، فقط في الدفاع عن حقوق الإنسان، حيث كان من بينهم رعايا الجاليات الأجنبية


قلدته الدول والممالك بنياشن وأوسمة و هدايا قيمة منها :

    وسام المجيدية من السلطان العثماني،

    وسام المنقذ الذي قلده إياه ملك اليونان،

    وسام النسر الأسود من ملك بروسيا،

    وسام النسر الأبيض من قيصر روسيا،

    نيشان بيوس التاسع من البابا،

    وآخرها وسام الشرف درجة الصليب الأكبر من الإمبراطور الفرنسي نابليون في 1860 الذي لم يشبه أي وسام منح قبلا.

    أهدته الملكة فكتوريا بندقية من ماسورتين مرصعة بالذهب وأهداه أبراهام لينكون رئيس الولايات المتحدة زوج مسدس مذهب

وفاته :

وافاه الأجل بدمشق في منتصف ليلة 19 رجب 1300 هـ / 23 مايو 1883 عن عمر يناهز 76 عاما، وقد دفن بجوار الشيخ ابن عربي بالصالحية بدمشق لوصية تركها. وبعد استقلال الجزائر نقل جثمانه إلى الجزائر عام 1965 ودفن في مقبرة العالية في مربع الشهداء الذي لا يدفن فيه إلا الشخصيات الوطنية الكبيرة كالرؤساء.

مؤلفات الأمير عبد القادر :

لم يكن الأمير عبد القادر قائدا عسكريا وحسب،

    له مؤلفات وأقوال كبيرة في الشعر تبرز إبداعه ورقة إحساسه مع زوجه في دمشق ومكانته الأدبية والروحية.

    له أيضا كتاب "المواقف"

    كتاب السيرة الذاتية لعبد القادر بن محي الدين كتبه في الأسر في 1849

    "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" في بروسة (تركيا) أثناء إقامته بها عبارة عن "رسالة إلى الفرنسيين"، وهو كتاب موجه لأعضاء المجمع الآسيوي بطلب من الجمعية، وذلك بعد أن منحه هذا المجمع العلمي الفرنسي قبل ذلك بقليل العضوية فيه. وكان تاريخ تأليف الرسالة في 14 رمضان 1271 / 1855 م، ثم ترجمها الفرنسي "قوستاف دوقا" إلى الفرنسية في عام 1858 م وهو القنصل الفرنسي بدمشق آنذاك. يحتوي الكتاب على ثلاثة أبواب (في فضل العلم والعلماء) وبه تعريف العقل وتكملة وتنبيه وخاتمة، و(في إثبات العلم الشرعي) يتحدث فيه عن إثبات النبوة واحتياج كافة العقلاء إلى علوم الأنبياء. وفصل ثالث (في فضل الكتابة).

المقراض الحاد لقطع لسان منتقض دين الإسلام بالباطل والالحاد وهو كتاب رائع للامير عبد القادر الجزائري يبرز الامير فلسفته في الحياة ونظرته في شتى المجلات والميادين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق